إسرائيل بعد الاتفاق مع حماس … عثمان حاجي مارف

منبر العراق الحر :ساعاتُ الانعطاف بعد اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، واهتزاز المشهد السياسي والحزبي في إسرائيل، كانت لحظة ساخنة ومشحونة. بعضها ظهر كأنه استسلام وإذعان لواشنطن، وبعضها اعتُبر مناسبة مهمة تُقرأ كاستعدادٍ لحل الحكومة والاستعداد للانتخابات المقبلة؛ بمعنى أن هذا الاتفاق يُنظر إليه كبداية لنهاية حكومة نتنياهو، ومرحلة الانتقالات السياسية التي ستظهر في المشهد الداخلي للمنطقة.

إذا ألقينا نظرة على إعادة ترتيب أوراق الأطراف داخل النظام السياسي الإسرائيلي، يتضح لنا أن معظم الأطراف رحبت ظاهريًا بما حدث باعتباره خطوة تاريخية لإعادة الأسرى المعلنين، لكن ذلك لم ينهِ ردود الفعل المتباينة، التي قد تتصاعد بصورة غير مباشرة بين الأطراف المختلفة، ما قد يعقّد المشهد ويغيّر مواقفهم تجاه نتنياهو، مع التركيز على مصير بقاءه أو خروجه من السلطة بعد الاتفاق — هل سيظل نتنياهو في السلطة أم يُحاكَم..؟!

نتيجة الاستطلاع الأخير، الذي أُجري على عينة من مؤيدي حزب الليكود برئاسة نتنياهو، أظهرت أن غالبية المستطلَعين تؤيد إنهاء الحرب كحل، وكجزء من توافق أوسع، كما أشارت النتيجة إلى أن إسرائيل يجب أن تصغي لرغبة ترامب من أجل المضي قدماً في إنهاء سريع للصراعات.

اتفاق وقف إطلاق النار جاء في توقيتٍ حساس لكلاسي نتنياهو، سياسيًا ودبلوماسيًا وداخليًا، لأنه من المرجح خلال الأشهر القادمة أن يُحدث هذا الاتفاق تغييرات في خارطة قوى الأحزاب داخل سُدّة الحكم. وفي الوقت نفسه، أظهرت أذرع ومنظمات صهيونية دينية ــ بوضوحٍ جلي ــ موقفًا يقضي بأنه إذا ما بقيت حماس في السلطة بعد نهاية الحرب، فسوف تُقبض على الحكومة، وهذا يعني أن نتنياهو سيكون في مركز ضغطٍ شديد؛ فليس مستبعدًا أن تنهار التحالفات السياسية التي تدعم حكومته.

اختبار نتنياهو لن يقتصر على نجاح اتفاقه حول قطاع غزة أو على رضى ترامب فقط، بل سيتَّسع ليشمل قدرته على الاحتفاظ بسلطته أمام التحولات السياسية والحكومية التي ستظهر لاحقًا بعد أي تغيير، فماذا سيفعل نتنياهو بعد أي تنازلات بلا قتال؟ ماذا عن ملف إيران؟ خاصة وأن هذا الاتفاق لا يمنح ضمانًا بنزع سلاح حماس أو إنهاء وجودها في قطاع غزة؛ بل قد يترك المجال أمامها للبقاء وحتّى لإعادة تسلُّحٍ ما، وهذا سيُعد مؤشر ضعف لإسرائيل. لذلك على حلفاء نتنياهو أن يقبلوا هذا الوضع ويعزّزوا دعمهم الدائم له داخل التحالف.

نتنياهو كرّر مراتٍ عدة تأكيداته أن الأمن الإسرائيلي سيبقى مصانًا، وزعم أيضًا أن حماس لن تُنفِّذ هجمات أخرى في الجنوب أو المناطق المحيطة، لكن مثل هذه التصريحات لا تُعتبر ضمانًا مطمئنًا لدى الجمهور الإسرائيلي المتشكِّك.

بالإضافة إلى محاولات نتنياهو الدؤوبة لإطالة عمر حكومته حتى تشرين الأول/أكتوبر 2026 وسعيه لتأجيل الانتخابات بالطريقة التي يُمكِن، فإن ذلك يهدف بالمقابل إلى الاحتفاظ بميزة زمنية في منصبه لشن هجمات جديدة على إيران وإتمام عملية احتواء السلاح في لبنان وإنهاء أي اتفاقات تطبيع إضافية تتعلّق بحدائق البيت الأبيض.

مواقف إسرائيل الحالية بشأن اتفاق وقف إطلاق النار مرتبطة بأزمةٍ ناجمة عن عامين من حرب مستمرة، وقد تحولت إلى حسابات سياسية وحزبية، خصوصًا مع دخول إسرائيل سنةً انتخابية مصيرية، في وقت يصرّ فيه نتنياهو على أن إسرائيل من خلال هذا الاتفاق تحقق أهدافها الحربية ــ تحرير كافة الشروط المطلوبة ــ مع الحفاظ على المكاسب الأمنية والسياسية التي تُقوّي موقعها وتضمن لها سيطرة واسعة على قطاع غزة.

ورغم أن الإسرائيليين عمومًا سمحوا بإنجاز هذا الاتفاق، إلا أنهم في الوقت نفسه اتخذوا خطوات قد تؤثر على مستقبل تبدّل الحكومة.

ما يستحق الذكر هو الإنجاز الأبرز لحماس: تحرير عدد كبير من الفلسطينيين (الأسرى)، الأمر الذي يقوّي مكانتها داخل المجتمع الفلسطيني ويمنحها هامشًا زمنيًا وعسكريًا. في المقابل، يبدو أن المتشددين داخل إسرائيل يرون في ذلك تحوّلاً مقلقًا في سياسة الحكومة مقابل حماس.

من ناحية أخرى، فإن تحفظات الاتفاق داخل التحالف والحِزب المعارض تمنح إسرائيل فرصةً لاستعادة موقعها الدولي وتأمين المصالح العالمية التي تضررت بفعل هجماتها على غزة، وفي الوقت نفسه تقوي روابطها مع الإدارة الأميركية إذا عاد ترامب إلى الرئاسة، إذ سيكون له دور محوري في تثبيت الاتفاق.

استمرار تشريد الفلسطينيين هو هدف استراتيجي واضح لدى إسرائيل، وهي لا تسعى ــ بأية حال ــ لإنشاء دولة فلسطينية في الضفة أو القدس أو قطاع غزة، كما أن مقترحات ترامب غالبًا ما تمثل إطارًا لخدمة المصالح الإسرائيلية ضمن حدودها ولا تمنح حلًا ذا مصداقية حقيقية للفلسطينيين.

أي تغيّرٍ في مواقف الدول الأوروبية حول مشروع الدولة الفلسطينية يَظهر في إطارٍ شكلي، يُعتبر أكثر تدويرًا لرد واشنطن منه حلًا فعليًا للقضية الفلسطينية أو وسيلةً لتهدئة الداخل، فهؤلاء الدول يعلمون جيدًا أن منح دولة للفلسطينيين ضمن الشروط المقترَحة لن يكون ذا تأثير عملي كبير؛ لذلك ثمة حاجة لخطوات عملية حقيقية بدل الإعلانات الرمزية.

ما قد يشكّل رادعًا أمام الاستراتيجية الإسرائيلية هذه، ومحاولة قبول ترامب لأجندته المحددة حول القضية الفلسطينية، هو توسّع السخط الشعبي على مستوى العالم، ما قد يجعل من الصعب على إسرائيل وأميركا فرضَ تثبيتٍ دائم للاتفاق وتنصيب كيان فلسطيني منقوص الصلاحيات دون شرعية شعبية.

إذا جرى إدراك ما حدث في غزة على أنه إبادة (جينو سايد) فإن الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي سيتضح بسهولة: حتى وإن لم تتغيّر أوضاع بقية الساحة في الشرق الأوسط، فإن إسرائيل ستظل ماضيةً في بناء ذرائع مناسبة لاستخدام القوة ضدّ السكان الفلسطينيين، عبر سياساتٍ قد تُنهي الوجود السكاني في كثير من المناطق التي تسيطر عليها، مما يضع الخيار الآن بين القتل أو التهجير الواسع للفلسطينيين ويجعل من الاتفاق الحالي هشًا وغير مضمونٍ للبقاء، ومن المحتمل أن ينهار تحت ضغوط داخلية وخارجية.

الاستراتيجية الإسرائيلية لا تثق بالسلام؛ فهي تقوم على قناعة أن السلطة العسكرية تمنحها الحق في تجاوز القوانين الدولية متى شاءت لمواصلة مشاريعها، دون التشاور أو المساءلة.

اليوم، إسرائيل تواصل تدخلاتها في سوريا ولبنان، وتُجدِّد سياساتها القائمة على القوة والتفوق ووجود دعم أميركي، باعتبار نفسها قوة إقليمية تسعى للحفاظ على الهيمنة في المنطقة؛ وفي هذا المخطط لا مكان لدولة فلسطينية حقيقية.

أي تغييرٍ يَطرأ على كلمات القادة الأوروبيين بشأن الدولة الفلسطينية يظهر في إطارٍ ضعيف وغامض، ويُعَدّ مجرد إشارة موجهة لواشنطن لا أكثر، لا حلًا للمشكلة الفلسطينية، ولا وسيلة لتهدئة الداخل الإسرائيلي أو لإجراء إصلاحات فعلية في بنية السلطة الإسرائيلية. بمعنى آخر، التحركات الأوروبية ليست جوهرية بل رمزية، ولا يمكنها أن تُحدث تأثيرًا عمليًا كافياً على الأرض.

ما قد يقوّي موقف المعارضة العالمية ضد هذه الاستراتيجية الإسرائيلية ومن يحاولون تبنّي نهج ترامب هو اتساع موجة السخط الشعبي الدولي، مما قد يضغط على إسرائيل وأميركا لِلجوء إلى تسويةٍ أكثر ثباتًا أو لتأسيس دولة فلسطينية معترف بها دون اية شروط وتتمتع بحقوق كاملة.

اترك رد