منبر العراق الحر :
عقيل أبو ذر هكذا كان أسمه يوم عرفني عليه حمزة الحسن في نهاية سبعينات القرن الماضي ، شاب لطيف تحتله البراءة وتغمره أمواج النقاء والبساطة، يتحدث في السياسة أكثر ممايشغله موضوع الثقافة ، يتسقط أخبار الجميع وأي جديد عن الذين هربوا أو استشهدوا في سجون النظام البعثي وخصوصا ً من الشيوعيين ، حتى يبدو كأنه موسوعة عراقية متجولة عن أحوال السياسيين والمثقفين من تم إسقاطه في مراكز التحقيق أو الذين اختفوا أو تحولوا الى اهتمامات أخرى .
كان مغرما ً ببطولات الذين التحقوا بالكفاح المسلح، التشكيل السياسي الشيوعي الذي أنشق عن تنظيم الحزب الشيوعي العراقي بالنصف الثاني من الستينات وتبنى مشروع البندقية في رحلة الكفاح المسلح وسط أهوار الناصرية والعمارة ، تلك مرحلة جيفارا التي طبعت أو استهوت الخطاب الثوري للأحزاب اليسارية والشيوعية في العالم .
عقيل أبو ذر غامض لاتعرف أين يسكن وما هو أسمه الكامل أو عشيرته، كان يتضايق عندما تلح عليه بالسؤال في هذه التفاصيل فصرنا نتركها للزمن ، أقول هذا بعد أكثر من عشرين سنة صداقة وكنا نحن الثلاثة عقيل وعيسي الصباغ وأنا تجمعنا علاقة تكاد تكون أسرية ، فهو يدخل بيوتنا حتى لو لم نكن موجودين لأنه ناجح بكسب ود الجميع بلطافة لسانه وتواضعه الجم .
علاقة سنوات طويلة وفيها تفاصيل كثيرة ومعاناة ومواسم حزن وفرح وتباعد واحداث جسام ، كان عقيل رفيقنا الدائم يظهر في وقت ماتحتاجه وينسحب من اللقاء في توقيتات تخضع لهواجسه الأمنية ، كأنه يضع طاقية إخفاء ويتنقل على نحو غير مرئي .. يضحك حين نقول له هذا !؟
عام ١٩٩١ وخلال القصف الامريكي على العراق وحرب الكويت كنا نجتمع يوميا في بيتي أو بيت الأخ عيسى نتداول الموضوع وماذا نعمل ، كنا نبحث عن طابعة وجهاز استنساخ لكي نطبع منشورات ونوزعها بين الناس وتحريضهم ضد نظام صدام وحربه ، وجدنا الطابعة لكننا لم نجد جهاز الاستنساخ ، وحين تعذر علينا ذلك راح عقيل ينسخ المنشورات بيده ويوزعها في شوارع الكفاح وشيخ عمر والجمهورية ، بينما كانت الشوارع خالية ،بل ان بغداد تكاد تكون خالية بعد نزوح أكثر من نصف سكانها خوفا من الضربة الكيمياوية ، ونحن كنا نريد أن نسقط يحارب امريكا ومعها 32 دولة بمنشورات نوزعها في طرقات يحتلها الخوف والفراغ .
عقيل الثوري الذي لايهدأ ، بعد احداث ٩١ وانكسار انتفاضة أذار وعودة صدام للسيطرة والبطش ومحاصرة المحاصرين أصلا ، فاجئني عقيل أن عرض لي الإنتماء للحزب الشيوعي القيادة العامة أي الجزء الذي أنشق عن اللجنة المركزية واعتنق منهج الكفاح المسلح ، جاء العرض بطريقة ذكية جدا ومسايرة لعلاقتنا وصداقتنا وهمومنا المشتركة لأكثر من عشر سنين ، حقيقة كانت مفاجأة بالنسبة لي أن يخفي عني عقيل انتمائه كل تلك السنوات ! المهم وقتها كنت قد قررت أن أهرب من عالم السياسة والإنكسار والأحداث وأنشغل بالكتابة والقراءة ، فكان اعتذاري لعقيل بلا حرج لكنه طلب أن يبقى هذا الأمر سرا ً بيننا .
عقيل إيقونة الثوري في زمن اللاثورية، ورمز الالتزام الأخلاقي والإباء في زمن عاشه بالفاقة والحرمان ، تأخر حتى تمكن من الزواج ، يحب الناس جميعا ويتألم لأوضاعهم خصوصا الفقراء، يعشق شخصية أبو ذر الغفاري فأطلق أسمه على ولده البكر ويعشق أيضا زعيم الصعاليك عروة بن الورد ، كان مولع بالكتب الممنوعة ويصطادني كلما عدت من عمان محملا بالصحف والكتب الممنوعة في العراق ، كان يميل لطباع المناضل القديم الذي يحمل المنشورات السرية ويوزعها على رفاقه فتجده قد استنسخ مقالا سياسيا ضد النظام وانهمك بتوزيعه على الرفاق والاصدقاء، لديه اصدقاء في كل مكان من بغداد لكنه لايُعرف بأصدقائه ، ولايساير الجميع لديه حاسة الحذر الشديد والمرضي أحيانا .
قبيل احتلال بغداد 2003 بأيام قلائل ، كنا نتناول الغداء في بيتي ونتحدث عن ماذا بعد الحرب وقد لاحت نذرها فقد كنا متحمسين أنا والصديق عيسى للخلاص من صدام ونظامه المتخلف ، لكن الغريب أن ثمة حزن غريب ران على محيا عقيل وصمت قليلا وأعلن نقده للامبريالية الامريكية وعنجهيتها وكذلك موقفه المخالف لنا واعتراضه على الامريكان واحتلالهم للعراق واسقاط نظام صدام ، رغم أن هذا النظام الدكتاتوري قد شرده واعدم اخوته واصدقائه ورفاقه !؟ كان عقيل حالما بتفوق على جميع احلام شعراء الأرض بأنتصار ثورة الكفاح المسلح ضد النظام البعثي وأن ترفع الرايات الحمراء ووسطها صورة الشهيد خالد أحمد زكي بطل معركة الغموكة 1968 والى جوار رفاقه الشهداء الأوائل .
رحل آخر عشاق الثورات النقية والحالم الذي لم يتنازل عن مبادئه يوما ً ، رحل يصطحب أحلامه فهي كل ثروته بهذا الوجود . أليس هذا العقيل آخر قديس ثوري في زمن الزيف والمنافع والأكاذيب السياسية التي تصنع تواريخ زائفة للدجالين والمزورين واللصوص وأشباه الرجال .
وداعا صديقي أبا ذر .. هذا بعض من ذكريات مستقرة بين ضفاف القلب والذاكرة ، سأعود لها بوقت آخر لعله أقل حزنا .

منبر العراق الحر منبر العراق الحر