منبر العراق الحر :
في تاريخنا العربي، لطالما كانت السلطة تعكس توازنات معقدة، غالباً ما تتمثل في حكم الأقليات للأكثريات. هذه المعادلة كانت حاضرة عندما حكم البعثيون السنة العراق ذي الأغلبية الشيعية، وكذلك في سوريا عندما حكم البعثيون العلويون الأقلية البلاد ذات الأغلبية السنية. ولكن يبدو أن هذه المعادلة قد انقلبت اليوم؛ فالعراق أصبح لعلي، وسوريا عادت لمعاوية. ولكن، هل يعيد التاريخ نفسه بالفعل؟. من يحكم العراق؟ السؤال المحوري في المشهد العراقي اليوم ليس فقط من يمسك بمفاتيح الحكم، بل كيف يتم ذلك؟ هل يحكم الشيعة العراق فعلاً كما يُشاع؟ نظرة متأنية إلى التركيبة السياسية تكشف تعقيدات المشهد. رئيس الجمهورية كردي، رئيس البرلمان سني، ووزراء الدفاع والثقافة وغيرهم موزعون على الطوائف والقوميات وفق نظام المحاصصة. أجهزة الأمن والشرطة تخضع لسيطرة شكلية للسلطة التنفيذية، بينما تعمل في الواقع وفق مصالح مراكز قوة متعددة . أما في المحافظات ذات الأغلبية السنية، فيقف على رأس السلطة شخصيات سنية، فيما تدار حكومة إقليم كردستان من قبل الأكراد، الذين يسيطرون على محافظاتهم الثلاث من خلال قيادة قوات البيشمركة . منذ الاحتلال الأمريكي للعراق، أصبح الحكم مرادفاً للفساد، بغض النظر عن الانتماءات الطائفية أو القومية. الطائفيون المكشوفون والمستترون يزعمون أن الشيعة غير مؤهلين للحكم، لكن ماذا عن فساد الساسة السنة الذين يتاجرون بالمناصب علناً؟ ماذا عن وزراء السنة وغيرهم، الذين يتورطون في فضائح لا تقل عن تلك التي تحيط بوزراء شيعة؟ وفي كردستان، تتواصل سيطرة الحزبين الكرديين الكبيرين . الجميع، شيعة وسنة وكرد وبقية الأقليات، مشتركون في هذه “العملية السياسية”، التي تحولت إلى آلة نهب بلا حدود، صُممت بإتقان لتُبقي البلاد تدور في حلقة مفرغة كـ”ثور الناعور ” . سوريا معادلة معكوسة : في سوريا، حيث يشكل العلويون حوالي 12% من السكان، استطاع النظام البعثي بقيادة عائلة الأسد أن يبني حكمه على توازنات طائفية وسياسية معقدة. ومع الحرب الأهلية، ظلت المعادلة قائمة بفضل التحالفات الداخلية والخارجية، ما يجعل من الحديث عن “علي ومعاوية” إسقاطاً مستمراً على واقع المنطقة . ربما يبدو وكأن التاريخ يعيد نفسه في الظاهر، لكن الحقيقة أن ما يحدث هو استمرار لنمط من الأنظمة السياسية القائمة على المحاصصة والفساد. السؤال ليس من يحكم، بل كيف يُحكم؟ ما يعانيه العراق وسوريا ليس صراعاً طائفياً بحتاً، بل أزمة نظام سياسي واقتصادي يُكرّس الفساد والإفساد، بغض النظر عن هوية الحاكم . في العراق وسوريا، تظل لعبة السلطة مرهونة بمعادلات طائفية وقومية معقدة، لكن المحرك الأساسي للأزمة هو الفساد المشترك بين جميع الأطراف. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل يمكن أن يتحرر العراق وسوريا من هذه الحلقة المفرغة؟ أم أننا سنبقى ندور في دائرة “ثور الناعور” إلى ما لا نهاية؟