منبر العراق الحر :
منذ أن عرف الإنسان نفسه، وعرف العالم من حوله، كان بحاجة إلى أن يحكي. فالكلمة أول ما يتقنه العقل البشري بعد الإشارة، وأقرب وسيلة للتعبير عن الوجود. ومن بين كل الأشكال التي ابتكرها الإنسان للتعبير، يظل الأدب الشعبي هو الأكثر قدرة على الصمود، لأنه ليس مصنوعًا في غرف الكتابة، ولا مصقولًا بالأدوات البلاغية الأكاديمية؛ بل منقوش في الذاكرة الجمعية تنسجه الألسن في الأسواق والمناسبات وتعيد الأجيال إنتاجه عبر الزمن.
الأدب الشعبي ليس نصوصًا فحسب بل إنه مناخ كامل، عالم مكثف من الوجدان وخزان ضخم للهوية. هو كتاب الأمة غير المكتوب ومتحفها الحيّ الذي لا تغلق أبوابه، وصوتها العميق الذي يتردد في الصدور قبل أن يسمعه أي أذن.
أولًا : الجذور الأولى… حين تكوّنت الحكاية قبل الكتاب.
قبل أن يتعلم الإنسان الكتابة بآلاف السنين كانت الحكاية الشعبية هي الوسيلة الأساس لفهم الحياة فالجدّات اللاتي يجتمع حولهن الأطفال في الليل هن المؤرخات الحقيقيات يحفظن أسماء الأبطال، ومواقف البطولة والحِكم التي تختبرها الأيام.
لقد حفظت الشعوب أحداثها الكبرى بهذه الطريقة :
– الحروب
– الهجرات
– الخيبات
– انتصارات القبائل
– قصص الفداء والتضحية.
كانت القبيلة تعرف تاريخها من خلال الشاعر أو الحكواتي، لأن الأدب الشعبي كان الوسيلة الوحيدة لنقل الذاكرة، ولأنه يقوم على الحفظ الشفهي الذي لا تنساه الذاكرة بسهولة.
وهنا تكمن قوته : إنه ابن الذاكرة الحيّة، لا الذاكرة الجامدة.
ثانيًا : صوت الناس… لا صوت النخبة
في الأدب الرسمي، تتصدر اللغة الفصيحة والقواعد، والأسلوب المتكلّف أحيانًا وأما في الأدب الشعبي فإن اللغة تنبض كما تنبض الحياة نفسها.
كلمة منسوجة من لهجة الناس، من يومياتهم، من عاداتهم. جملة قد لا تجد لها وزنًا عروضياً كاملاً، لكنها تمتلك وزنًا شعوريًا لا يشبهه شيء.
هذه هي القوة التي جعلت الأدب الشعبي مصدراً متيناً للهوية فهو صوت الناس الذي لا يمكن تزييفه.
إن الأغنية التي يرددها الفلاح وهو يعمل، أو الندبة التي تقولها الأم عند الفقد، أو المثل الشعبي الذي يختصر موقفاً معقداً بكلمتين، جميعها تخرج من قلب الإنسان العادي، لا من مكتب الكاتب.
ولهذا فإن الأدب الشعبي يحتفظ بطبيعة المجتمع، أخلاقه، وأسلوب تفكيره الحقيقي.
ثالثًا : الموروث… حين يروي الأدب ما لا ترويه الكتب
الكتب الرسمية غالبًا ما تكتب الأحداث الكبرى : غزوة، معاهدة، عهد ملكي أو حكم دولة. لكنها لا تتطرق إلى التفاصيل الصغيرة التي تصنع حياة الناس.
الأدب الشعبي يفعل ذلك :
_يصف بيوت الطين، رائحة التنور، صوت المواسم.
_ينقل صورة العلاقات بين الناس: المحبة البلدية، نخوة الرجال، غيرة النساء، حسرة الأمهات.
_يروي تفاصيل الحياة اليومية التي لا تُكتب في أي وثيقة حكومية.
_يخلد أسماءً ربما لم تُسجّل في أي سجل رسمي، لكنها خُلّدت في الذاكرة الشعبية.
وحين يعود مؤرخ معاصر ليقرأ هذا الأدب يجد فيه كنزًا لا يعوض فهو ليس سرداً للحوادث فحسب، بل تفسيرًا لها، ومنظورًا يعبر عن عامة الناس لا عن السلطة.
رابعًا : الشعر الشعبي… ملحمة الوجدان
يحتل الشعر الشعبي مكاناً مركزياً في تراث الأمم، خصوصاً في المجتمعات العربية التي ترى في الشاعر صوت القبيلة وممثلها العاطفي والاجتماعي.
_الشعر الشعبي ليس مجرد كلام موزون؛ إنه وثيقة وجدانية.
فيه :
_الغزل العفوي الموشح بصدق المشاعر.
_الرثاء الذي يبكي الرجال كما تبكي النساء.
_الفخر الذي يرفع عزة المجتمع.
_الحكم التي تقطر تجربةً وحنكة.
ولأن الشعر الشعبي مكتوب بلغة القلب يصبح أقرب للناس من أي نوع آخر.
إنه يُقال في الفرح كما يُقال في الحزن. في الزواج كما في الموت. في النصر كما في الهزيمة. إنه ليس نصاً فقط… بل هو طقس اجتماعي كامل.
خامسًا : الأمثال الشعبية… حكمة الإنسان البسيط
المثل الشعبي هو نتيجة تراكم خبرات طويلة، يختصر تجربة كاملة في جملة قصيرة وهو يعكس عقل الأمة وطريقة تفكيرها ونظرتها للأشياء.
وخطورة الأمثال وقوتها أنها تفعل في المجتمع ما لا تفعله أي قوانين :
تبني سلوكاً، توجه الناس، تحسم النقاشات تكشف الخبايا، وتفضح التناقضات.
وهي تنتقل من جيل إلى جيل دون أن تفقد معناها، لأن الإنسان مهما تغير يبقى محتاجًا للحكمة أكثر من حاجته للعلم.
سادسًا : الحكايات الشعبية… مدرسة القيم
الحكاية الشعبية ليست رواية للترفيه فحسب بل إنها مدرسة تربوية فيها تتجسّد القيم العليا التي يود المجتمع غرسها في الأبناء :
_الشجاعة
_الأمانة
_الذكاء
_الصبر
_الوفاء
_احترام الكبار
_نصرة الضعيف
الحكاية الشعبية أقوى من النصوص الأخلاقية، لأنها تعلم الإنسان عن طريق السرد، لا عن طريق الأمر والنهي.
ولهذا يبقى أثرها في النفس أعمق وأطول.
سابعًا : الأدب الشعبي… مقاومة ثقافية ضد محو الهوية
حين تواجه الشعوب حروباً أو احتلالاً أو محاولات لطمس هويتها، يكون الأدب الشعبي أول ما يتصدى لهذا الطمس.
العدو يستطيع أن يغيّر المناهج، أو يفرض قوانين، لكنه لا يستطيع أن يلغي موالاً شعبياً أو مثلاً دارجاً، ولا يستطيع أن يمنع الناس من إنشاد أهازيجهم التي توارثوها عن أجدادهم.
لهذا كان الأدب الشعبي في كل العصور شكلاً من أشكال المقاومة الثقافية، وحائط صدّ يحفظ هوية الأمة من الذوبان.
ثامنًا : دوره في زمن العولمة
في عالم اليوم الذي تتشابه فيه الأزياء والأغاني واللغة العامة، يصبح الأدب الشعبي خط الدفاع الأخير عن خصوصية الشعوب.
العولمة تسحب الجميع نحو لون واحد، لكن الأدب الشعبي يعيد التوازن، لأنه يذكّر الإنسان بانتمائه الأول.
وفي زمن الانفتاح السريع، تضيع الهوية بسهولة، فتعود الشعوب إلى أغانيها القديمة وأمثالها ولهجتها للبحث عن جذورها.
تاسعًا : الأدب الشعبي بوصفه مادة للأدب الحديث
الأدباء الكبار حين يريدون كتابة رواية عظيمة أو قصيدة خالدة، يعودون إلى التراث الشعبي ليأخذوا منه:
_نبرة اللغة
_روحية الحكاية
_بساطة التعبير
_خصب الصورة الواقعية
_إيقاع الحياة اليومية
لذلك نجد الإبداع الحقيقي متصلاً دائمًا بالتراث الشعبي، حتى لو كان شكله حديثًا.
عاشرًا : لماذا يجب توثيقه اليوم ؟
خطر الاندثار يهدد ما لم يُسجّل. والأدب الشعبي لا يزال في كثير من الشعوب محفوظاً شفهيًا. ولهذا يجب :
_جمع المواويل والحكايات.
_توثيق الأمثال.
_تسجيل الأغاني الشعبية.
_حفظ قصائد الشعراء الشعبيين.
<دراسة اللهجات في سياقها الثقافي.
_حفظ الأدب الشعبي ليس حفظ نصوص بل حفظ مجتمع.
ختاما الأدب الشعبي هو روح الأمة، ومرآتها التي لا تكذب. هو السجل الذي حفظ حياة الناس حين غابت الأقلام، وصوت القلوب حين صمت المؤرخون.
إنه ليس تراثًا للمتاحف، بل نبضٌ متجدد وذاكرة تُشعل الحاضر وتبني المستقبل.
والأمم التي تحترم نفسها، تبدأ من احترام صوتها الشعبي.
ومن دون هذا الصوت، لا يمكن لأي مجتمع أن يعرف من هو، ولا أن يدرك إلى أين يتجه.
والأدب الشعبي هو هوية، وتاريخ، وقيمة وحياة وحين نحفظه، فإننا لا نحفظ كلمات… بل نحفظ أنفسنا.
د.رافد حميد فرج القاضي
منبر العراق الحر منبر العراق الحر