منبر العراق الحر :
عادة ما نرتكب بعض الحماقات، دون أن ندري، أو نعتقد أنها من فروض التطور ومظاهر الحداثة والعصرنة، مثلما تركنا كتابة الرسائل بالقلم على ورق البياض، وتحولنا نحو رسائل إلكترونية على شاشة زرقاء باردة وفاقدة لحرارة الوجد الذي كانت تفيض به الرسائل الورقية/ المكاتيب!
تلك الفكرة هاجت في ذهني وأنا أبحث عن رسالة بعثها لي أحد الأصدقاء من داخل السجن عام 1987 أي في سنوات الحرب، الآن يسألني إن كنت أحتفظ بها أم لا؟
صديقي الذي شردته الحرب الطائفية مع سنوات الاحتلال الأولى، وترك بغداد ليستقر في أربيل، كأنه صار يبحث عن وثائق الحنين ونقاط ارتكاز إنسانيتنا التي بدأت تهتز مع زمن الاهتزازات الكبرى في عالم الأخلاق والأفكار والسلوك الإنساني. لكن الوثائق لا تعيد الزمن الضائع!
كانت الرسائل في زماننا نحن، عبارة عن وثيقة روحية تنقل لحظات البركان العاطفي من عمق الروح إلى الورق، رسائل الصداقة والمهجر والغربة ولوعتها، رسائل الحب وأول الاعترافات الخجولة، رسائل من جبهات الحرب تحمل غبار المعارك وبقايا وشم البارود، رسائل الرفاق وألغازها، رسائل الأهل الواردة سراً للسجون السرية والعلنية، رسائل كانت مفعمة بروائح تلك الأزمنة وقسوتها وملذاتها، مشاعر طازجة، نقية، مخلصة في ترجمة لحظات العمر وانفعالاتها دون حذف وتركيب على شاشة زرقاء بلا حبر أو رائحة!
حين تركنا المكاتيب، كنا نقوم بإعدام ذلك الظل الذي يعمق المعنى بأيامنا، والوطن الذي مارس لعبة الخداع على وعينا، وأغرق طفولته بالأوهام وفكرة انتصار الثورة والحرية والاشتراكية لبلادنا التي سرعان ما أضحت رهينة لفساد مطلق وخرافات تقود فوضاها نحو تيه مساراتها. المجهولة.
أعتذر لك يا صديقي، لقد ضاعت المكاتيب مع الكتب
التي أتلفها الأهل للتخلص من التهمة!
أضعنا الرسائل القديمة بمذاقات تلك السنين وعنفوانها واكتناز أناشيدها بموسيقى الأحلام والرغبات الممنوعة، كانت ملاذات لحنين ضاع مع تلك السنين التي رمتنا على جادة التشبث بالذكريات والبحث عن المكاتيب القديمة!؟