منبر العراق الحر : في عالم تتشابك فيه المصالح والعواطف والاحتياجات النفسية، يصبح وضع الحدود بين الأشخاص ضرورةً لا رفاهية، سواء في الحياة الاجتماعية أو المهنية أو العائلية… ؛ فالإنسان، بطبيعته، كائن اجتماعي يسعى إلى التفاعل والتواصل، لكنه في الوقت نفسه يحتاج إلى مساحة خاصة تحميه من الإرهاق النفسي والاستنزاف العاطفي والتطفل … ؛ و هذه المساحة ليست جداراً للعزلة، بل “منطقة أمان” تحفظ للمرء خصوصيته وكرامته، وتضمن استمرار العلاقات بصورة صحية ومتوازنة.
**البعد النفسي لوضع الحدود
من الناحية النفسية، الحدود هي الحواجز الذهنية والعاطفية التي يضعها الفرد لحماية ذاته من الانتهاك أو الاستغلال أو الضغط الزائد… ؛ و غياب هذه الحدود يؤدي إلى تداخل الأدوار والمشاعر، ما يخلق بيئة خصبة للتوتر، والشعور بالاستغلال، وفقدان السيطرة على الحياة الشخصية.
الأشخاص الذين لا يجيدون وضع الحدود غالباً ما يعانون من القلق المزمن، لأنهم يعيشون في حالة استجابة دائمة لمتطلبات الآخرين على حساب احتياجاتهم الخاصة… ؛ بالمقابل، فإن القدرة على قول “لا” عند الضرورة، وتحديد المسافة المناسبة في التعامل، تمنح الإنسان إحساساً بالسيطرة والاتزان النفسي.
**البعد الاجتماعي لوضع الحدود
اجتماعياً، غياب الحدود يُضعف العلاقات أكثر مما يقوّيها… ؛ فالتداخل المفرط، والتدخل في الشؤون الشخصية، وتجاوز الخصوصيات، كلها عوامل تخلق الاحتقان وتؤدي إلى تدهور الروابط… ؛ بالمقابل، فإن العلاقات المبنية على الاحترام المتبادل لخصوصية الآخر هي الأكثر استقراراً وديمومة.
المجتمعات التي تفتقر إلى ثقافة “الحدود” تعاني من ظواهر اجتماعية سلبية، مثل الغيبة والنميمة والهمز واللمز والتنمر ، وكثرة الصراعات، وفقدان الثقة، لأن غياب المسافة الآمنة يتيح للآخرين التوغل في حياة الفرد بلا إذن أو اعتبار… .
**نظرية القنفذ وشوبنهاور: المسافة الآمنة
هنا تبرز “مُعضلة القنفذ” التي صاغها الفيلسوف الألماني شوبنهاور سنة 1851، كتشبيه عميق للعلاقات الإنسانية… ؛ فالقنفذ في الشتاء، حين يشعر بالبرد، يقترب من أقرانه طلباً للدفء، لكن أشواكه تؤذيه وتؤذيهم… ؛ وعندما يبتعد، ينجو من الألم، لكنه يواجه برداً قاسياً.
الحل الذي وجده القنفذ كان في اختيار “المسافة الآمنة” التي تمنحه الدفء الكافي بأقل قدر من الألم… ؛ شوبنهاور أسقط هذا المثال على العلاقات الإنسانية، مؤكداً أن الإنسان، رغم حاجته للتقارب الاجتماعي، قد يتعرض للأذى النفسي من شدة القرب، وأن أفضل العلاقات هي التي تُبنى على التوازن بين القرب الكافي للحب والدعم، والبعد الكافي لحماية الخصوصية.
**كيف نطبق “المسافة الآمنة” في حياتنا؟
*الوعي بالذات: معرفة حدودك العاطفية والنفسية والجسدية، وفهم متى تبدأ في الشعور بالضغط أو الانتهاك.
*التواصل الواضح: التعبير الصريح عن احتياجاتك وحدودك بأسلوب محترم وواضح، دون خوف من فقدان العلاقة.
*الاحترام المتبادل: إدراك أن للآخرين أيضاً حدوداً يجب احترامها، حتى لو كانت تختلف عن حدودك.
*المرونة: المسافة الآمنة ليست ثابتة دائماً؛ فقد تحتاج لتقريبها أو إبعادها حسب الظروف.
*التجارب الواقعية: التجربة خير معلم، ومع مرور الوقت يتعلم الإنسان المسافة المثالية التي تضمن استمرار العلاقة دون ألم أو قطيعة.
**أمثلة واقعية من المجتمع العراقي
في المجتمع العراقي، تُعدّ العلاقات الاجتماعية متشابكة وقوية بفعل العادات والتقاليد وروابط القرابة، لكن هذه القوة قد تتحول إلى ضغط أو صراع إذا غابت الحدود.
*مثال العائلة الممتدة:
في الكثير من البيوت العراقية، يشارك الأقارب في أدق تفاصيل حياة الفرد، من اختيار شريك الحياة إلى التدخل في أسلوب التربية وإدارة المال… ؛ ورغم أن هذه النوايا قد تكون بدافع الحب أو الحرص، فإن غياب “المسافة الآمنة” يؤدي أحيانًا إلى صدامات وانقسامات عائلية، حيث يشعر الفرد بأن حياته لم تعد ملكه… .
*مثال الصداقات الطويلة:
الصديق المقرّب في العراق قد يعتبر من حقه معرفة كل تفاصيل يومك، أو التدخل في قراراتك المهنية والشخصية… ؛ وفي حين أن الدعم مهم، فإن تجاوز الخطوط الحمراء يحوّل الصداقة من مصدر راحة إلى عبء نفسي، خاصة إذا تكرّر التطفل أو فرض الرأي.
*مثال الجيرة في الأحياء الشعبية:
روح التضامن بين الجيران ميزة أصيلة في الثقافة العراقية، لكن أحيانًا تتجاوز هذه الروابط حدود الخصوصية، فيتحول فضول الجار إلى مراقبة دائمة أو تدخل في شؤون الأسرة، مما يخلق توترًا قد يؤدي إلى قطيعة… .
*المجالس العشائرية والاجتماعية:
في بعض الحالات، يُجبر الأفراد على المشاركة في نزاعات أو قرارات جماعية بحجة الولاء العشائري، حتى وإن تعارضت مع قناعاتهم الشخصية، بسبب غياب إدراك فكرة “المسافة الآمنة” في الانتماء.
**الرسالة المستخلصة للمجتمع العراقي
التجربة اليومية تثبت أن قوة العلاقات لا تُقاس بمدى القرب الجسدي أو كثرة التواصل، بل بقدرتها على احترام مساحة الفرد وخصوصيته… ؛ وكما في معضلة القنفذ، فإن القرب المفرط بلا وعي قد يُحوّل دفء العلاقات العراقية إلى أشواك مؤلمة، بينما القرب المدروس المبني على الاحترام والحدود المتوازنة يجعل هذه الروابط أكثر ديمومة ونضجًا.
**الخاتمة
إن وضع الحدود ليس انعزالاً ولا أنانية، بل هو فنّ حماية الذات وضمان جودة العلاقات… ؛ و نظرية القنفذ تذكرنا أن القرب المفرط مثل البعد المفرط، كلاهما مؤذٍ بطريقته الخاصة… ؛ والسر يكمن في “المسافة الآمنة” التي تمنحنا الدفء الإنساني دون أن نخسر سلامنا الداخلي… ؛ فكما أن القنفذ وجد طريقته للحياة بسلام، علينا نحن أيضاً أن نتقن فن المسافة التي تبقي قلوبنا دافئة وعقولنا مطمئنة.
منبر العراق الحر منبر العراق الحر