منبر العراق الحر :
مرة في خانقين، حيث جغرافية الجيش مثل ناقة ابن بطوطة تحط رحالها بأوامر لهجته جلفية بصوت العريف (ضمد): شدوا (يطغاتكم) وكلبوا المدافع بمؤخرة الشاحنات، فعندنا نقلة.
والنقلة في الجيش تعني العسكرة بمكان غير هذا المكان حتى لو كانت المسافة ميلاً واحداً، وكنا نلتقط خبرها قبل ساعات فنتهيأ لطارئها بالمؤن والصلاة، خاصة عندما تكون هذه النقلة من الأماكن الهادئة إلى الربايا الساخنة في حرب الشمال.
وذات مرة انفتحت كتيبتنا في موضع قتالي أمام بوابة خسروي الحدودية في خانقين أيام حكم الشاه، وقريبة المجمع الحكومي لنقطة الجمارك، وعندما أخبرونا أن في المجمع حانوتاً لبيع المواد الغذائية ذهبت أنا وزميل لي في الحظيرة هو أيضاً معلم سِيقَ مثلي إلى خدمة العلم بعد تخرجه من دار المعلمين، وكان من أهل مدينة شهربان لنشتري السكائر والشاي والسكر، وقرب دكة إسمنتية قال: لنجلس هنا في هذا المكان التاريخي، آه لو كانت لدينا كاميرا فوتوغرافية، فالصورة على هذه الدكة تعيد جلوس رجل حائز على نوبل يوم مر من هنا والتقط صورة تذكارية.
قلت: وهل جلس عليها أينشتاين أو توينبي مثلاً؟
قال: كلا، لقد جلس عليها الشاعر الهندي طاغور، والتقط صورة تذكارية مع مستقبليه من أهل خانقين يوم أتى العراق زائراً قادماً من إيران.
عشت بنشوة لحظة أن تجلس على دكة جلس عليها شاعر تعشق قصائده، والمثير في لحظة جلوسي على الدكة الإسمنتية هو مرور قطيع من الجواميس لأناس يربّونها، ويسكنون في ضواحي المدينة، ليسوا أكراداً، بل أناس نزحوا من الجنوب والوسط واستقروا هنا طلباً للرزق عندما كانوا يفترشون حافة الطريق الواصلة إلى الحدود يبيعون القيمر لقوافل الزوار الآتين من العراق لزيارة الأماكن المقدسة في إيران، أو القادمين لزيارة العتبات المقدسة في العراق.
صورة الشاعر مع مستقبليه وصورة القطيع، أتت بذكرياتها بعد زمن في متعة البرد الخارق بشعاع شمس مشرقة يحفزنا دفؤها على الاقتراب من ضفاف الأهوار ومطالعة الكتب التي كنا نجلبها معنا لنقضي بها رتابة الوقت الطويل الذي نعيشه بعد نهاية دوام المدرسة.
يومها كنت قد جلبت معي كتاباً لأشعار طاغور بترجمة بديع حقي، وتلك وحدها من قربت إليَّ المدائح الروحية لهذا الشاعر الكبير، وكانت هناك رواية في الكتاب هي من صنعت روعة التفرد الوجداني في كره الماديات واللجوء إلى الصفاء الخالص في أرواحنا عبر رواية ما زلت إلى اليوم أتذكّر تفاصيل رؤيتها كلما أتيت للجلوس على مصاطب النزهة في ضفاف نهر الراين، لأتذكر تلك الأمسيات الخالدة في روزنامة عمري، تلك التي كنا نقرأ فيها وعلى ضفاف ممالك القصب المائية الكتب ونسمع الأغاني ونتمنى الاقتراب من المدن التي تشعر أجفانها بنعاس ممثلاتها الفرنسيات والإيطاليات والأمريكيات.
مختصر رؤى تلك الرواية: أن كاهناً عظيماً كان يقف على نهر الغانج ويتأمله وكان معه تلميذه، وكان بيديه أسوارتان من الجوهر الثمين، فجأة رمى الكاهن واحدة من هاتين الأسوارتين في النهر الهائج، فتعجب التلميذ وقال: مولاي كيف ترميها إنها ثمينة، ترى أين استقرت الآن لأعوم في الماء وأجلبها، فرمى الكاهن الإسوارة الثانية وقال: حيث وقعت الإسوارة الثانية.
هذه الرواية، أشغلت في رأسي متعة عدم الاكتراث للمادي والثمين في عالم أهل الأهوار، فهم لا يهتمون لما يفقدون؛ لأن القدر رسم لهم صورتين ثمينتين من الفقدان وهما مسجلتان بقلم السماء، أما فقدان البشر أو الدواب، وهذين الهاجسين ربما في سعرهما الروحي أثمن من أي جوهرة في هذا العالم.
لهذا لم يكترث أحد في مدرستنا لدى قراءته لتلك الرواية التي نبهته عليها وقال: كهنتنا هنا، لا يملكون الأساور، فقط يمتلكون الأمل إنهم في سبيل الحسين (ع) يحصلون على رزقهم من دموعنا التي نذرفها لأجله. وتلك الدموع هي أيضاً أساور من الجواهر…….!

منبر العراق الحر منبر العراق الحر