جمهورية العشيرة…د. جوتيار تمر

منبر العراق الحر :حين تتخلى الدولة عن منطق المؤسسات وتسمح للعشيرة بأن تكون إطارًا ناظمًا للسلطة، فإنها تفقد تعريفها الأول بوصفها كيانًا يقوم على القانون والشرعية الوطنية.

فالحكم حين يُمارس باسم الأسرة الحاكمة أو التحالفات العشائرية، يتحول تدريجيًا إلى نموذج بدائي لا يستند إلى معايير الكفاءة أو المشاركة أو التداول، بل إلى روابط الدم والولاء، مما يجعل القرار السياسي حكرًا على مجموعة ضيقة ترى السلطة إرثًا لا مسؤولية.

في مثل هذا المناخ، يصبح الانتماء الوطني فرعًا ثانويًا مقارنة بالانتماء العشائري، ويتراجع مفهوم الدولة لصالح ما يشبه “العشيرة الكبرى” التي تتصرف في المجال العام بمنطق الامتياز لا بمنطق الواجب.

هذا التحول ينعكس مباشرة على سلوك السلطة، إذ يصبح التعنّت بديلاً عن الحوار، والانغلاق مقدّمًا على الانفتاح.

فالسياسة التي تُدار بآليات عشائرية لا تعرف التفاوض ولا تبحث عن حلول وسط، لأنها قائمة على ثنائية الغلبة والخضوع، لا على منطق الدولة الذي يفرض الشراكة وبناء التوافقات.

لذلك تُقصى القوى السياسية الأخرى ليس لاختلافها في الرؤى، بل لكونها لا تنتمي إلى “الدم الصحيح”، وتتحول الملفات الوطنية إلى ساحات صراع لا إلى ميادين صناعة قرار. وحيث يسود هذا النهج، يشيع الانسداد السياسي، ويختفي التفكير المؤسسي لصالح نزاعات تقوم على ردود فعل ثأرية أو ضغوط عشائرية، فيتعطل كل مسار إصلاحي.

ويمتد هذا الخلل إلى صميم العملية التشريعية نفسها. فعندما يصبح الترشح إلى البرلمان مبنيًا على الانتماء العشائري، يفقد البرلمان جوهر وظيفته ويتحول إلى مجلس تمثيل قبلي لا مؤسسة دولة. ويغدو المقعد النيابي مجرد امتياز عشائري يُمنح لـ”ابن العشيرة” بغض النظر عن كفاءته أو قدرته على التشريع. ومع اشتداد المنافسة داخل العشيرة نفسها على هذا الامتياز، يتكرس منطق القوة على حساب منطق القانون، ويصبح البرلمان مساحة تعكس صراعات العصبيات أكثر مما تعكس إرادة الشعب.

ومع غياب معايير الاختيار الوطني، وغياب الرقابة الحقيقية، تنعدم القدرة على إنتاج تشريعات عادلة أو إصلاحية، لأن من يتولى التشريع خاضع أصلاً لشبكة من الولاءات التي تمنعه من أي استقلالية.

وعند هذه النقطة، تصبح النتائج معلومة مسبقًا: انفلات عشائري يُشرعن كجزء من “سُنّة الحكم”، وتمدد نفوذ الجماعات والأذرع المرتبطة بالعشيرة، وتراجع هيبة الدولة، وتطبيع الفساد تحت حماية الولاءات القبلية.

فلا مساءلة في ظل سلطة تستند إلى العصبية، ولا قانون يُطبق على الجميع حين يكون بعضهم محصنًا بانتمائه. ومع مرور الوقت، تتصدع فكرة الدولة نفسها، وتبرز وحدات عشائرية تتصرف ككيانات داخل الدولة، فتتآكل السيادة من الداخل ويُستبدل النظام بالقوة، والعدالة بالانحياز، والمواطنة بالقرابة. إن دولة تُحكم بالعشيرة لا يمكن أن تُنتج دولة. والسياسة التي تُمارس بالتعنّت لا يمكن أن تُنتج حلولًا. والبرلمان الذي ينبني على الولاءات الضيقة لا يمكن أن يصنع تشريعات وطنية. ولذلك، يقتضي الإصلاح الحقيقي إعادة الاعتبار إلى القانون بوصفه الرابط الأعلى بين المواطنين، وتحقيق استقلالية المؤسسات، وتعديل قوانين الانتخابات بما يمنع الاحتكار العائلي للمقاعد، وتعزيز الهوية الوطنية المدنية على حساب الهويات المتنازعة.

فالدولة الحديثة لا تُبنى بالدم، بل بالعقل؛ ولا تُقاد بالعشيرة، بل بالمؤسسات؛ ولا تستمد شرعيتها من الولاء الضيق، بل من العدالة التي تشمل الجميع دون تمييز

اترك رد