“كروة تعبانة”… حين تصبح الكلمات مرآة أوجاع أمة…د.رافد حميد فرج القاضي

منبر العراق الحر :

في زحمة النهار، وعلى أرصفة المدن التي تتنهد من ثقل العابرين، تتردد جملة قصيرة ظاهريًا، عميقة دلاليًا : “كروة تعبانة”.
جملة نقذفها بوجه الحياة كل صباح، كأنها صكّ اعترافٍ بأن تعبنا أصبح أثقل من أقدامنا، وأن المشوار لم يعد مجرد طريقٍ من بيتٍ إلى عمل، بل رحلة يومية في متاهة الإنهاك.
هذه الجملة لم تعد توصيفًا لحال المركبة التي تقلّنا، ولا لوعورة الطريق، بل تحوّلت إلى رمز اجتماعي يلخص علاقة الإنسان العراقي مع يومه… بين الصبر والكدّ، بين الضجيج والوجع، بين الرغبة في الوصول والخوف من السقوط.
“كروة تعبانة”… ليست مركبة فقط، بل مجتمع يحاول أن ينهض فالكروة المتعبة ليست سيارة متهالكة أو مقعدًا لا يستحق الجلوس عليه. إنها صورة مكثّفة لمشهد أوسع :
إنها الطالب الذي يستيقظ بلا نوم ليصل مدرسته قبل أن يسرقه الوقت.
وإنها الأم التي تخبئ قلقها تحت عباءة مسؤوليتها كي لا يهتز البيت.
وإنها العامل الذي يضربه القيظ والشتاء، ويبتلع أنينه كي يعود براتب لا ينظر إلى جهده.
وإنها الموظف الذي يحلم بدولةٍ تسير بخطوات مستقيمة، بينما هو يتعثر في طوابير معاملات لا تنتهي
والكروة المتعبة… مرآة مكبرة لحال الطريق كله وحال البلد كله.
وحين نقولها، فنحن لا نصف وسيلة النقل بل نصف سفينة حياتنا اليومية التي نمخرُ بها عباب واقعٍ شاق.
لغة الناس… حين تصبح شهادة تاريخ ففي علم الاجتماع، هناك جمل بسيطة تصنع الذاكرة العامة.
و”كروة تعبانة” واحدة من تلك الجمل التي تنزلق من اللسان لكنها تحمل خريطة كاملة للزمن الذي نعيشه
هي تعبير عن :
البنى التحتية التي تئن
والشوارع التي تعلم الصبر أكثر مما تعلم القيادة
والتخطيط الذي يتعثر كلما حاول أن ينهض
وحتى المزاج العام الذي يتبدل بين يومٍ وآخر
إنها شهادة يومية على أننا نسير… نعم نسير، لكننا لا نسير بخفة، ولا بسرعة، ولا بطمأنينة.
في ظلال الجملة… تعب الطريق أم تعب الروح؟
حين تتعب الكروة، ربما بإمكانك إصلاحها تغيير مقعد، تبديل إطار.
لكن ماذا عن الروح ؟
حين تتعب الروح من تكرار المشوار، ومن حركة بلا تغيير، ومن انتظار طويل لا ينتهي فهنا يصبح التعب ليس في “الحديد” بل في الإنسان نفسه.
الكروة المتعبة تعبير عن ملل الزمن، عن ثقل الأيام، عن إحساس داخلي بأن الحياة تتحرك ببطء شديد لا يليق بالأحلام التي نحملها.
نقول “كروة تعبانة” لأننا نخاف أن نقول :
“أنا تعبان… روحي تعبانة”.
ومع ذلك… نواصل الطريق
ورغم كل شيء، نواصل المشي ونلحق بالمركبة نتعلق بأملٍ ما، نجرّ خطواتنا.
وهذه القوة الخفية التي تجعل العراقي يستمر، هي التي أبقت البلد واقفًا رغم كل العواصف.
الشعب الذي ابتكر هذه اللغة اليومية المريرة–الساخرة هو نفسه الشعب الذي يحول التعب إلى طاقة، والازدحام إلى ضحكة، والوجع إلى نكتة، والنكبات إلى ذاكرة تقوّيه.
“كروة تعبانة”… لكن الراكب عنيد والكروة قد تكون متعبة لكن الراكب العراقي عنيد يمتلك صلابة تكفي لنهضة قارة كاملة.
ويمتلك القدرة على تحويل الطريق الوعر إلى درس في الشجاعة، وتحويل الانتظار إلى تمرين على الصبر، وتحويل التعب إلى نبرة سخرية تفضح الواقع دون أن تُسقط الإنسان.
الكروة تتعب… لكن البلد لا يستسلم وهذه الجملة اليومية ليست مجرد تعليق عابر، إنها وثيقة اجتماعية–نفسية تحكي قصة بلدٍ يسير رغم السقوط ويواصل رغم العطب ويحاول أن ينهض ولو ببطء.
الكروة قد تكون متعبة…
والاطارات قد تكون مثقوبة…
والطرق قد تكون مليئة بالحفر…
لكن الإنسان العراقي، الذي يصوغ الكلمات من حنجرته المتعبة ولا يزال يبتسم، هو المركبة الحقيقية التي لم ولن تتعب.

د.رافد حميد فرج القاضي

اترك رد