بواعث أمل في معركة الوجود ….للكاتب والباحث محمود النادي

منبر العراق الحر :

منذ ما يقارب ٩ أشهر وأكثر، والعالم كله يشاهد بأم عينه ما يجري في فلسطين في الضفة والقطاع على حد سواء. مشاهد القتل والدمار أصبحت روتيناً يومياً ألفته جميع المحطات الفضائية، وجرائم الاحتلال الصهيوني غزت كل مواقع التواصل الاجتماعي. على الرغم من التكنولوجيا والخوارزميات التي تحول بينها وبين إيصال البعض منها، إلا أنها اكتسحت شوارع العالم والجامعات.

إن هذا الشعب النبيل يخوض معركة فرضتها قوى الشر. كان لابد من إظهار صلابة غير معهودة والتفاف حول مقاومة أرادت أن تنسف كل الاتفاقات والمعاهدات التي وقعت بالنيابة عنها. إن المقاومة منذ البداية أكدت على الحق المشروع في الدفاع عن أرض فلسطين التي اعتقد العالم على مر السنين أن الشعب الفلسطيني لا وجود له، لكن كان الثمن دماء الأطفال والنساء والشيوخ التي أراقها الاحتلال على جنبات فلسطين في البيوت والمساجد والكنائس والخيام.

لم يكن لدى المقاومة خيار سوى القتال الذي أجبرها المحتل على خوضه. والذي اعتقد أنه الأخير في عمر هذا الاحتلال، لأن نتائجه لن تظهر إلا بعد انتهاء العدوان. سيرى الصهاينة وقطعان مستوطنيهم مدى قدرة المقاومة على الصمود وإيقاع الخسائر في صفوف جنود الاحتلال ومرتزقته. لقد حمّل العالم أجمع في بداية العدوان المقاومة مسؤولية ما يجري.

لكن سرعان ما تكشفت الحقائق نتيجة الهمجية والغطرسة الصهيونية. إن المقاومة إذ تتعامل مع أسرى عدوها بغاية الإنسانية والالتزام، على الرغم من تعمد الاحتلال الإسرائيلي قصف الحاضنة الشعبية للمقاومة، لكنها فهمت منذ البداية أن نتنياهو يتلاعب بورقة الأسرى لإطالة مدة الحرب ومستقبله السياسي على المقصلة. أرادت أن تفوت عليه فرصة النصر، فاستطاعت أن تكبد جيشه الوحشي الخسائر وأعدت له كل صنوف القتل والأسر. وهذا ما يقلق نتنياهو أن غزة المحاصرة والمقطعة أوصالها لا مكان فيها للعيش، استطاعت أن تصمد في وجه أعتى الجيوش وآلمته خاصرته. فسارع نتنياهو بدهائه ومكره إلى أن يخدع بايدن ويضغط عليه للحل في غزة. فكانت ورقة بايدن هي ورقة من صنع نتنياهو ويمينه المتطرف بمباركة بايدن خوفًا من ازدياد الحنق من معارضيه وسحب البساط من تحت قدميه من قبل اليمين المتطرف المتمثل في سموتريش وبن غفير، اللذان لوحا بالاستقالة في حال رضخ لمطالب المقاومة.

لقد فهم العقل المقاوم طبيعة الصراع وظروفه الميدانية. فأدار دفة المقاومة بالاتجاه الصحيح رغم كل الضغوطات، سواء من الصمت العربي المطبق والضغط الأمريكي والوسطاء من قطر التي لوحت بطرد قيادة المقاومة. إلا أن الموقف الثابت كان الفيصل: لا مفاوضات دون خروج المحتل من القطاع وفك الحصار وإطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين، وإدخال المساعدات الإنسانية العاجلة وعودة النازحين.

لكن الفشل العسكري والسياسي لنتنياهو حال دون إجراء صفقة تبادل. فالأخير نصب نفسه هولاكو العصر ودمر ما تبقى من مقومات للحياة، وأوعز للمتطرفين والمنحرفين من مستوطنيه الاعتداء على الفلسطينيين في الضفة التي بدأت نيران اليمين المتطرف تصب حمم حقدها، تارة بتحويل إدارتها إلى مدنية لكي تفعل ما يحلو لها كأنها أصبحت إقطاعات لأشخاص، وتارة بزيادة الاستيطان وإطلاق يد الجيش على المخيمات والتجمعات المقاومة لتحقيق ما لم يستطع تحقيقه في غزة: تقويض السلطة وإنهاء حكمها، وإعادة احتلال كامل للضفة التي أصبحت مقاومتها أشرس، وحسب زعم نتنياهو أن صواريخها على المدى القريب ستدك مغتصباته وتهدد عاصمته الصهيونية.

إن الفشل العسكري يلاحق نتنياهو ويضعف موقفه أمام داعميه، الأمر الذي دعاه لزيادة الطلب على السلاح والضغط على بايدن. فالوقت الذي اختاره نتنياهو لا يصب في صالح بايدن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية في أمريكا. أراد أن يتغزل بنظيره ترامب الذي سيعمل على إنقاذ نتنياهو من مأزق الفشل، وبالتالي أضعف بايدن وأظهره بمظهر الضعيف المتخاذل. على الرغم من كل ما قدمه للحكومة الإسرائيلية، لكن ترامب زاد من الطين بلة حينما قال له في أول مناظرة: “لو كنت في سدة الحكم لما حدثت حرب أوكرانيا”. أعتقد أنها التلويح بالاتفاق الذي سيفضي إلى حل المسألة الأوكرانية فيما بعد إذا جرى انتخابه، والاعتماد الكامل على اللوبي الصهيوني في الأصوات من الولايات التي يسيطر عليها اللوبي الصهيوني.

ما الذي حققه نتنياهو في غزة؟ أيعقل جيش جرار يخوض أعلى المعارك وينتهك كل المحرمات لا يستطيع السيطرة على قطاع لا تتجاوز مساحته ٣٦٠ كم، محاصر بالسفن الأمريكية ومغلق المعابر ولا يملك سوى إرادة البقاء والصمود وعقيدة النضال ضد المستعمر؟

لعل أكثر الاحتمالات لحل الصراع الصهيوني تأتي من الطرف الأمريكي، وخاصة من الشعب الذي أخذ ينقسم من مؤيد لدعم إسرائيل ورافض له، وبين جمهوري وديمقراطي. في حين أن الإدارة الأمريكية أبلغت نتنياهو أنها لا طاقة لها على تحمل المزيد من الوقت. هذه نقطة الخلاف مع نتنياهو الذي يريد إطالة عمق الأزمة وزيادة الضغط على المقاومة في الوقت الذي تتعرض فيه سمعة الولايات المتحدة.

وقواعدها العسكرية لضربات المقاومة. ستدرك الإدارة الأمريكية في نهاية المطاف أنها الخاسر من وراء هذا الدعم، والشعب الأمريكي سيعلم أن الدفع باتجاه دعم إسرائيل سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي، وسيؤدي إلى خسارة أهم قواعدها في المنطقة والنزف البطيء لمقدراتها العسكرية، مما سيؤدي إلى تغيير نمط وسلوك الانتخابات الأمريكية. ستكون تغييرات جذرية للسياسة الداعمة للكيان الصهيوني. إن العالم ينتظر بفارغ الصبر ما ستفرزه الانتخابات الأمريكية. هل سيكون هناك تغير حقيقي في سياستها الخارجية؟ هذا ما ستفرزه الأحداث.

الكاتب والباحث محمود النادي من فلسطين

اترك رد