سنة الوطن وسنة السلطة: صراع الهوية والولاء في العراق …كتب رياض الفرطوسي

منبر العراق الحر :
لطالما كان السنة العرب في العراق جزءاً أصيلاً من النسيج الوطني، متعايشين مع مختلف المكونات بسلام، ومساهمين في بناء الهوية العراقية الجامعة. ومع ذلك، فقد انقسمت النخب السنية إلى تيارين بارزين: الأول يمثل المكون الاجتماعي المتجذر في هذا الوطن، والآخر يرمز إلى “سنة السلطة”، أولئك الذين ارتبطوا بالأنظمة الحاكمة وسعوا لتحقيق مصالحهم الشخصية حتى لو كان ذلك على حساب استقرار البلاد ووحدتها . تاريخياً، شكل السنة جزءاً لا يتجزأ من الهوية العراقية المتنوعة، حيث ساهموا في تعزيز قيم التعايش مع الشيعة والكرد والأقليات الأخرى. عاشوا في المدن والقرى جنباً إلى جنب مع إخوانهم من المكونات الأخرى، وارتبطوا بعلاقات اجتماعية متينة تجلت في التزاوج والتعاون الاقتصادي والثقافي . هذا المكون الاجتماعي ظل قريباً من هموم الناس اليومية، رافضاً الاستقطابات الطائفية، ومؤمناً بوحدة المصير. فحتى في أحلك الظروف، حاول سنة الوطن النأي بأنفسهم عن الانقسامات الحادة، داعين إلى بناء مشروع وطني يتجاوز حدود الطوائف . في المقابل، برز ما يمكن تسميتهم بـ”سنة السلطة”، الذين ارتبطوا بمراكز الحكم منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة. منذ عهد الملكية وحتى الأنظمة الجمهورية المتعاقبة، وخاصة في ظل حزب البعث، كان هؤلاء يديرون سياساتهم وفق منطق القوة، معتمدين على علاقاتهم مع الأنظمة الحاكمة لضمان استمرار هيمنتهم . تميز سنة السلطة بالبراغماتية السياسية، وكانوا على استعداد للتعامل مع أي جهة تضمن لهم النفوذ، سواء كان ذلك من خلال دعم أنظمة قمعية أو التماهي مع أجندات خارجية. وقد ساهم هذا النهج في تعميق الانقسامات داخل المجتمع السني نفسه، حيث شعر أبناء العشائر والنخب الاجتماعية بالخذلان من قبل النخب السياسية التي ادعت تمثيلهم . مع الغزو الأميركي للعراق عام 2003، تغير المشهد السني بشكل جذري. تفككت بنية السلطة التقليدية التي كان سنة السلطة جزءاً منها، وواجه المجتمع السني أزمة تمثيل حادة. بينما لجأت بعض الجماعات السنية إلى المقاومة المسلحة، اختار آخرون الانخراط في العملية السياسية، لكنهم وجدوا أنفسهم منقسمين لعدة اسباب منها :
اولا. التنافس على النفوذ والمكاسب
ثانيا . غياب مرجعية موحدة : حيث لم يتمكن سنة السلطة من بناء قيادة سياسية موحدة أو مرجعية دينية تجمعهم. هذا الفراغ القيادي ساهم في تفكك الصف السني إلى تيارات متناحرة تتبع أجندات مختلفة .
ثالثا. الاستغلال الخارجي : انخرطت قوى إقليمية ودولية في توظيف بعض قادة سنة السلطة لخدمة مصالحها، ما أدى إلى تفاقم الانقسامات بينهم بناءً على ولاءاتهم الخارجية .
رابعا . تباين الأيديولوجيات : تنوع الأيديولوجيات بين الشخصيات السنية، من قوميين إلى إسلاميين وسلفيين، ساهم في تعميق الانقسامات، حيث فضلت بعض الأطراف التعاون مع الاحتلال أو القوى السياسية الجديدة، بينما تبنت أخرى المقاومة المسلحة .
في هذا السياق، ظهر فراغ قيادي داخل المجتمع السني، ما أتاح للجماعات المتطرفة مثل “القاعدة” و”داعش” استغلال الوضع لفرض أيديولوجياتها، الأمر الذي زاد من تعقيد الأزمة السنية وأساء لصورة المكون برمته . اليوم، يحتاج سنة الوطن إلى قيادة حكيمة تعيد بناء نخبهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. يجب أن تستند هذه القيادة إلى مشروع وطني جامع يتجاوز الانقسامات الطائفية، ويعزز الهوية العراقية المشتركة . على سنة الوطن أن يتجنبوا الوقوع في فخ الخيارات الصفرية أو الاصطفافات الطائفية، وأن يعملوا على بناء جسور التواصل مع المكونات الأخرى في العراق. في المقابل، على سنة السلطة إعادة تقييم أدوارهم السياسية، والتخلي عن نهج السعي وراء المكاسب على حساب المصلحة العامة. بين سنة الوطن وسنة السلطة، يكمن الفارق الجوهري في الولاء والانتماء. الأول يرتبط بجذوره الوطنية، ويضع مصلحة العراق فوق كل اعتبار، بينما الثاني يضع السلطة والامتيازات الشخصية في المقدمة . إذا أراد العراق تجاوز أزماته، فإن الأمر يتطلب من جميع مكوناته، وخاصة السنة العرب، التكاتف والعمل على بناء دولة مدنية تسودها العدالة والمواطنة بعيداً عن منطق السلطة الطائفية أو الاستغلال السياسي .

اترك رد