من أسواق كوبنهاغن إلى شوارع براغ: حكايات من قلب أسواق الميلاد

منبر العراق الحر :

في قلب الشتاء، حيث تتلألأ الأضواء بألوانها الزاهية، وتكتسي المدن الأوروبية بحلّة احتفالية رائعة، قرّرت أن أنطلق في مغامرة لطالما حلمت بخوضها، رحلة عبر أسواق الميلاد التي تشهد تجمعات الناس وبهجة العيد. كانت تلك اللحظات كأنها لوحة فنية حية، حيث النكهات تعزف لحنها الخاص، والأصوات تتداخل في تناغم يعكس فرحة المجتمع.

انطلقت من كوبنهاغن، المدينة التي تنبض بالحياة في موسم العيد، محمّلةً بذكريات الطفولة والأمل. كل ركن من أركان المدينة كان يحكي قصة، وكل رائحة تعبق في الهواء كانت تأخذني في رحلة إلى ماضٍ دافئ. كانت الأكشاك المتراصة في الأسواق تُعرض فيه كنوزاً من الحلويات والمعجنات، وتفوح منها روائح تثير الشهيّة وتغري الحواس. كان النبيذ الساخن من أولى تجاربي في السوق؛ حيث شدّني بخاره المتعطر برائحة القرفة والبرتقال، ممزوجاً بالقرنفل في تناسق مثالي. حملت الكوب بيدي، فشعرت بالدفء يتسرب إلى جسدي، وعندما تذوقت أول رشفة، غمرتني نكهاته العميقة، وكأنها تسرد حكايات قديمة من قلب الشتاء الأوروبي.

توجّهت مباشرةً إلى سوق “تيفولي”، الذي يزدحم بالزوار والسكان المحلّيين. الأكشاك المتراصة على الجانبين كانت مليئة بألوان زاهية، تتراقص في تمايل خفيف كأنها ترقص مع أضواء الميلاد. كل كشك يعرض منتجاته بطريقة فنية تبهر العيون وتسرّ القلب. لم يكن من السهل مقاومة إغراء الـ”دانيش” (Danish pastry) التي كانت تفوح منها روائح الكستناء والمكسرات، كما لو كانت تنادي لي لتجربة تلك المعجزة الصغيرة. عند أول قضمة، انفجرت النكهات في فمي، حيث كانت الحشوة دافئة وغنية، وكأنني أستمتع بحفلة نكهات تعيدني إلى ذكريات الطفولة، حيث كانت المعجنات تشكل جزءاً لا يتجزأ من لحظات الاحتفال التي لا تنسى.
ما أضفى سحراً خاصاً على تلك اللحظة هو كوب من الشوكولاتة الساخنة التي طلبتها جانباً، استمتعت باحتسائها وأنا أشاهد الناس يتجوّلون، وضحكات الأطفال تملأ الأجواء، وكأن كل شيء في السوق يتناغم مع روح العيد.

بعد يوم مليء بالنكهات في كوبنهاغن، انتقلت إلى فيينا، المدينة التي تنتشر فيها الفخامة في كل زاوية، وكأنها لوحة فنية تُعبّر عن أسطورة الميلاد. في سوق “شتيفانسبلاتز”، احتسيت كوباً آخر من النبيذ الساخن، وكانت الأكشاك تعرض مجموعة متنوّعة من الحلويات، لكن ما جذبني حقاً كان الـ”ساشير تورته”، تلك الكعكة الشهيرة التي تُعتبر رمزاً للمدينة. أخذت قضمةً منها، وكانت الشوكولاتة الغنية تتمازج مع لمسة من المشمش، مما قدّم لي طعماً يسحر الحواس. هنا، كنت أشعر بأنني أعيش في إحدى القصص الكلاسيكية، حيث الموسيقى الكلاسيكية تعزف في الخلفية، لتأخذني في رحلة عبر الزمن، حيث ينغمس الماضي في الحاضر.

وبعد الاستمتاع بسحر فيينا، حان الوقت للتوجه إلى بازل، المدينة التي تنتظرني بأجواء احتفالية رائعة. هناك، كانت أكشاك الـ”بريزلي” (Basler Läckerli) هي ما جذبني، تلك الحلوى الغنية بالمكسّرات والعسل، المقدّمة في مربّعات صغيرة، كل قضمة منها تُشعرك بالحب والدّفء، وكأنها تجسّد روح المدينة. بينما كنت أستمتع بالطعم، كان الجو مليئاً بالضحكات والمحادثات، ممّا خلق شعوراً بالألفة والمودّة. جو بازل الدافئ، حيث يجتمع الأصدقاء والعائلات للاحتفال معاً، جعلني أشعر بأنني في بيت كبير، محاطةً بأناس يشاركونني فرحتي بهذه اللحظات السعيدة.

تابعت رحلتي إلى بودابست، المدينة التي تعج بالحياة والثقافة، وتحتضن في ثناياها تراثاً عريقاً. في سوق “فوروم”، كان هناك تنوع كبير في الأطعمة التي تعكس تاريخ المدينة الغني. لم أستطع مقاومة تجربة الـ”حساء الغولاش” (Goulash)، الطبق الشهير الذي يُعتبر من الأطعمة التقليدية. كانت رائحته تجذبني بشدة، وعندما تناولته، كانت النكهات الغنية تملأ فمي، مما جعلني أشعر بالدفء والراحة، وكأن كل ملعقة تحكي لي قصة المدينة، تاريخها وثقافتها. كما استمتعت بتجربة الـ”لبلينك” (Lángos)، تلك المعجنات المقليّة التي كانت تُقدّم مع الثوم أو الجبنة، وكانت لذيذة بشكل لا يُصدق، مما جعلني أشعر بالامتلاء والسعادة، وكأنني أستمد الطاقة من نكهات المدينة المتنوّعة.

 

 

ختام رحلتي كان في براغ، حيث الأجواء ساحرة كقصص العيد، وكأن المدينة تتنفّس روح الميلاد في كل زاوية. في سوق “ستارومستسكا”، استقبلني عبق الخبز الطازج والحلويات، ممّا جعلني أشعر وكأنني في عالم خيالي مليء بالفرح. لم يكن بإمكاني مقاومة تجربة الـ”Trdelník”، ذلك الخبز المغطّى بالسكر والقرفة. قشرته مقرمشة من الخارج، بينما كان الداخل طرياً ودافئاً، مما جعلني أشعر بالسعادة مع كل لقمة. كانت ضحكات الأطفال وأصوات الباعة تتداخل في الخلفية، مما جعلني أشعر بأنني أعيش لحظة فريدة، محاطة بحيوية السوق وأجوائه الاحتفالية.
أدركت أن هذه الرحلة لم تكن مجرد تجربة تذوق للأطعمة، بل كانت استكشافاً لثقافات مختلفة وذكريات ستظل عالقة في ذاكرتي. كل مدينة زرتها، وكل طبق تذوقته، كان يحمل معه حكايات وتقاليد تعكس روح الميلاد. من كوبنهاغن إلى براغ، كانت كل لقمة تحكي قصة، وكل رائحة تعيدني إلى لحظات دافئة، حيث تعبّر النكهات عن حب الحياة وتفاصيلها الصغيرة.
ومع انتهاء رحلتي، شعرت بالامتنان لكل تجربة، وكل ذوق، وكل ضحكة عشتها. إن أسواق الميلاد الأوروبية ليست مجرّد أماكن للتسوق، بل هي بوابات لعوالم مليئة بالمشاعر والحكايات، وتجارب تستحق أن تُحتفظ في القلب. إن كل زيارة كانت تمثل رحلة إلى عالم جديد، حيث النكهات تعبّر عن الثقافات، والاحتفالات تنقل الدفء والمحبة بين الناس. أغلقت عيني في تلك اللحظة، وذكّرت نفسي بأن الحياة مليئة باللحظات السحرية، ما دام لدينا القلوب المفتوحة لتجربتها. تلك اللحظات، المحاطة بأضواء العيد وعبق الحلويات، ستبقى محفورة في ذاكرتي، تذكّرني بأن كل لحظة في الحياة تحمل سحراً خاصاً.

نانسي فضّول

المصدر: النهار

اترك رد