موسيقى دمعة القصب والبلوط …نعيم عبد مهلهل

منبر العراق الحر :
لم تكن الحرب أبعد من الحب في قلوب الذين يسكنون قريتنا ، فتلك الثنائية ( البائية ــ حب وحرب ) والتي تنتهي بحرف يشبه الزورق ( الباء ) ، وهذا الزورق هو من يقودهما إلى ذلك القدر المختفي في نقطة ما في سماء العالم ولكنهم يشاهدونه بأرواحهم وبوضوح متى بدأ أبنائهم يجيئون أول فجر قريتنا شهداء من ساحات المعارك.
لم يتعود أهل الأهوار أن تأتي اليهم نعوش يقال أنها مصنوعة من خشب البلوط لو رأوه في غير التوابيت لتمنوا أن يكون خشبا يُصنع منه المشاحيف أو ( الجرباية ــ السرير ) أعمدة تثبت فيها السوابيط في نومهم الصيفي .
كل حياتهم كانت النعوش هي من تخرج من القرية ومصنوعة من القصب ،ويتم تبدليها متى وصلت الى الجبايش بتابوت من خشب متهرىء بتقادم الزمن وموجود كوقف في جامع المدينة .
والآن القرية في عام الحرب الثالث أعطت من نحيب نسائها خمسة شهداء ،فأصبح لديهم خمسة توابيت ،ومتى أخذ الله احدهم الى اخرته نسوا نعوش القصب وحملوه بنعوش خشب البلوط ،ومرات يخاطبون القرى الاخرى إن كانوا يحتاجون توابيتَ لموتاهم فيجيء الرد :شكرا لكم لدينا الكثير من نعوش شهداء قريتنا .
شغاتي موظف الخدمة في مدرستنا أطلق على ظاهرة توفر التوابيت في القرى على أنها بوجعين .وجع فقدان ابنائنا ، ووجع إننا نرى من خلال هذه النعوش ما كان يخبئه لنا القدر ولا نعرفه ،لهذا يقول شغاتي أن لكل واحد منا قبران . نعشه الذي يحمل فيه واللحد الذي يدفن فيه .
معلم رد عليه قائلا ً : ومع الوجع هناك سعادة الإستشهاد .
رد شغاتي بغرابة وشجاعة وبلغته المتهكمة : غير “همه عمت عيني عليهم ” يعرفون على ماذا استشهدوا ، شغلتهم سالفة جبر من رحم إمه للقبر .
شعرت أن موتهم هي حكاية مستعادة من بكاء مدونات أسطورية قديمة ربما دونها أبناء هذا المكان ، وذات النحيب السومري هو من تنشده الأمهات كسمفونيات لذلك الوجع الذي يجعل الجواميس في بعض أيام تلك المآتم تذهب وحيده وتجر خطاها من الزرائب إلى امكنة قيلولتها بسير ثقيل وحزين ويمر نهارها قد تفقد فيه شية أكل القصب وشرب الماء فهي دون رعاتها الذي تعودت على سماع اغانيهم على شكل آبوذيات وبدلها تستمع إلى نواح النساء القادم من بيوت القرية.
لمستُ الوجع بصورته الجديدة عندما أنشد لنا الصباح نحيب سيدة بمواويل شدو تفجع أي نعاس ، فلم نسمع الديك ليوقظنا مثل كل صباح ، إذ صمت وانكفأ في ولم ولم يتكلم وترك أم ( روشان ) تنحب على أول فجيعة أتت بنعش إلى قريتنا كأول قرابين الحروب حين جاءوا بروشان مذبوحا بطلقة برنو من اقاصي الشمال التي ذهب اليها وهو يعرف انها ليست حربه ، ولكنه خجول وطيب ومطيع ولم يهرب مثل اقرانه من شباب القرية ويسكن أكمة القصب ، بل ترك قبلة على جبين والدته وقال : ما يكتبه الله ، هو مايكتبه القدر على دفاتر حياتنا وعلينا أن نحفظها على جدار القلب حتى لو كان حبرها دموع وأسى .
واظن أنه أخذ هذه العبارة من إهداء كتبه صديق لي على مجموعته القصصية وحين انتهيت من قراءتها اهديتها إلى مكتبة المدرسة وذات يوم عندما كان روشان من محبي القراءة في الصف الخامس نصحته بقراءتها لأن أحداثها في الريف ، ويبدو انه أحب عبارة الاهداء التي كتبها المؤلف على الكتاب وحفظها عن ظهر القلب .
فكان أن ردت عليه الأم بحكمتها : انا قلت يا علي ..والشمال قال هاتيه إليْ..
قتل روشان يتيم الأب في حرب لا يعرف معناها و لا يستطيع حتى أن ينطق اسم ( البرزاني ) كما يلفظه أبناء شعبه من الأكراد .
ولأن العريف سمعه ذات يوم يقول :هذه الحرب لا تليق بأهل الأهوار فهي ليست حربهم ولا يكرهون أحدا هنا في هذه المرتفعات ليحاربوه ، لهذا دفعوه إلى ربيئة متقدمة فوق جبل هندرين ، وهناك لقيَّ قدره بالذهاب إلى السماء بعربة الصمت .
الدولة كتبت عنه في مكاتباتها ومعاملة تقاعده أنه شهيد ، وأمه قالت : مات لأنه يتيم ومكرود.
ولأنها بقيت وحيدة مع إبن آخر لم يبلغ رشده بعد ، فأننا طلبنا من شغاتي أن يُكملَ مع الأم معاملة تقاعد ولدها ، فكان يذهب معها كل يوم إلى الناصرية . وحين استلمت مكافأة موت ولدها في حرب شمال . أخذت المكافأة وطلبت من الرجل الذي يبني المضائف في الجبايش ليبنيَّ مضيفا جديدا .
اجاب الرجل : ولكنكِ قبل عام أعدتِ بناء مضيف زوجك ” الله يرحمه ”
قالت :كلا اريدك أن تبنيه قرب قبر أبي روشان وروشان ليتسامرا فيه كل ليلة وهما يشربان الشاي ويستمعان إلى نحيبي وشوقي اليهما.
تذكرت أم روشان وموسيقى نحيبها العذب وهي تمرر أصابعها على غطاء نعش ولدها المصنوع من خشب البلوط حين كنت أستمع لمستشرق ألماني يلقي محاضرة عن بيوت القصب في الحضارات السومرية القديمة في مكتبة البلدية في مدينة إيسن الألمانية وهو يتحدث عن بيئة البيوت وأمكنتها ، فتذكرت أم روشان ورفعت يدي في نهاية المحاضرة وقلت : دكتور أنا أعرف سيدة من هناك بَنَتْ بيتا من القصب قرب قبر زوجها وابنها الذي قتلته الحرب.

اترك رد