ضجيج الصغار ….كتب رياض الفرطوسي

منبر العراق الحر :
في زوايا المنصات الإلكترونية، حيث لا تصمت الأصوات بل تتكاثر كفقاعات الصابون، يُعاد إنتاج الخطاب الرديء، متنكراً في هيئة السياسة، مزهواً بوهم المعرفة. كلمات تُلقى كما تُلقى الأحجار في البرك الراكدة، لا لتحركها، بل لتُفسد ما بقي من صفائها.
في هذه الساحات الرقمية، لا أحد يُريد أن يسمع إلا ما يُرضي صورته عن العالم. لا أحد يُنصت، بل الجميع يتكلم، والجميع يتهم. يُراد منك أن تكتب بغضب، أن تشتم، أن تُكرر ما قيل آلاف المرات، أن تتحول إلى صدى باهت، لا إلى صوتٍ يبحث في العمق عن نبض الحياة. لا يُغفر لك أن ترى الضوء بعد العاصفة، ولا يُقبل منك أن تُبشّر بفرصة، أو تُذكّر الناس بأن الإنسان ليس ظلاً لظروفه، بل مَن يصنعها.
إنهم لا يريدون تحليلاً، بل تأكيداً لانفعالاتهم. لا يريدون من الكتابة أن تكون أفقاً، بل قيداً. أن تكون فأساً تُمزق، لا يداً تُشير. لا يتسامحون مع فكرة أنّ الأرض قد تشرق مجدداً بعد الحروب، وأن في الحياة دائماً فسحة، حتى لو خنقها الرماد.
كل من يخرج عن “الخط المرسوم” يُتهم بالهروب أو بالخيانة أو بالسذاجة. كل من يحاول أن يُعيد للإنسان قيمته ككائن خلاق، حر، حالم، مفكر، يُتهم بأنه منفصل عن الواقع. أما الواقع، في تصورهم، فحفرة سوداء لا يُسمح لك أن تنظر خارجها. لكن الحقيقة التي يعرفها من جرّب الكتابة بالدم لا بالحبر، أن الوعي ليس محصوراً في نشرات الأخبار، وأن الإنسان لا يُختصر بتقلبات السياسة.
لقد مررنا بجحيم من السنوات. خضنا في الطين، وتكسّرت أرواحنا تحت أحذية القمع والحرب والخذلان. ومع ذلك، لم نمت. لم نتحوّل إلى رماد كما أرادوا. نحن الآن على شفا تجربة جديدة، فيها عناصر دولة، ملامح نهوض، احتمالات إصلاح، لماذا لا نُجرب أن نرى ذلك؟ لماذا نصرّ على الاستقرار في الخراب وكأننا نخاف من الضوء؟
إنّ من يُريد بناء شيء جديد لا يمكنه أن يبدأ من دون تفكير حر، تفكير يُنتج مفاهيم جديدة لا مستعارة، لغة صادقة لا ملوثة، عقل يرى لا يُردد. أما من تَعوّد أن يأكل الكلام المعلب، فسيردد ما تقوله قنوات الهبوط وخلايا الدعاية السياسية، وسيعتقد أنه يُفكر، وهو لا يفعل سوى إعادة تدوير القبح.
ثقافة المنصات أصبحت ملعباً للسطحيين، الذين يصرّون على تعليب العالم داخل مفردات مشحونة بالتحريض والسخرية والريبة.

اترك رد