منبر العراق الحر :
ليس الضحك دائمًا تعبيرًا عن الفرح، ولا البكاء دليل ضعف. في المجتمعات التي عاشت طويلًا تحت القمع، يتحوّل الضحك إلى لغة بديلة ووسيلة بقاء نفسي واجتماعي. ويشكّل المجتمع العراقي مثالًا فريدًا لهذه المفارقة؛ فهو مجتمع بارع في صناعة النكتة، بقدر براعته في صناعة الحزن.
في الأنظمة الديكتاتورية، يُسمح غالبًا بانتشار الضحك غير الواعي، بل تُشجَّع النكتة أحيانًا، لأنها تعمل كصمام أمان يخفف الاحتقان الشعبي ويؤجّل الانفجار. في هذه المرحلة، تبدو النكتة غير خطِرة، لأنها تفريغ بلا مشروع، وضحك بلا تراكم. غير أن المفارقة أن هذه الأداة نفسها تحمل في داخلها بذرة انقلابها.
فالنكتة، مهما كانت مُدارة أو مُراقَبة، لا يمكن السيطرة عليها بالكامل. ومع تراكم القمع، تتحوّل من تنفيس فردي إلى لغة جمعية، ومن تسلية عابرة إلى استخفاف بالهيبة الرمزية للسلطة. وحين يضحك الناس من السلطة، لا يعودون يرونها مطلقة ولا مخيفة، حتى وإن ظل سلاحها حاضرًا.
وقد أدركت الأنظمة القمعية هذه الخطورة، فأنشأت داخل أجهزتها الأمنية وحدات مختصة بإشاعة النكتة ومراقبة تفاعل المجتمع معها، بل واستخدمتها أحيانًا كسلاح لتسقيط المعارضين أو تحجيم خصوم داخل النظام نفسه. غير أن أخطر مراحل هذه الممارسة تمثلت في استخدام النكتة لتسفيه القيم والعقائد والرموز الدينية، في محاولة لضرب المناعة الأخلاقية للمجتمع.
هنا، أظهر المجتمع العراقي وعيًا حاسمًا؛ إذ سرعان ما أدرك أن النكتة لم تعد “منه”، وأنها لم تعد تضرب السلطة بل تضرب ما يحميه منها. فتم إغلاق قنوات تداول هذا النوع من السخرية، وتحولت النكتة ذاتها إلى شاهد على عداء النظام لهوية المجتمع.
في هذا السياق، يمكن فهم كيف أصبحت النكتة في مراحل متأخرة أخطر من الفن الغنائي الهادف، بل أخطر من أغنية لفنان مثل فؤاد سالم. فالأغنية لها صوت واحد يمكن منعه أو نفيه، أما النكتة فهي ألف صوت بلا اسم ولا توقيع. وحين يصبح الضحك أخطر من الغناء، فهذا يعني أن السلطة فقدت سيطرتها على المعنى، حتى وإن احتفظت بأدوات القمع.
وقد عبّر الشعر الشعبي العراقي عن هذه المفارقة بصدقٍ لافت، كما في قول عريان السيّد خلف:
((وهذا حچي الناس أون من لوعتي / وقالوا يغني))
وقول عبدالكريم السعيد:
((تضحكنه وتالي تبجينه))
إن الضحك في التجربة العراقية ليس سذاجة، بل ذكاء وجودي؛ وليس إنكارًا للألم، بل طريقة لإدارته. وحين يتحول هذا الضحك إلى وعي، يصبح مقاومة ناعمة وبداية محتملة للتغيير.
منبر العراق الحر منبر العراق الحر