دوامة التغيير… حين تبتلعك ذواتك المتعددة…رياض سعد

منبر العراق الحر :

عندما نسقط في دوامة التغيير، نرتدي سترات هلامية لا تكشف ملامحنا، ونمشي بأجساد غامضة حتى أمام أنفسنا… ؛ نغدو غرباء عن ذواتنا، مجهولين في مرايا الماضي والحاضر، نبحث عن وجوهنا في وجوه الذين كنا نعرفهم، فلا نجد سوى أطياف باهتة… ؛ نحيا بذكريات ذواتنا السابقة، غير قادرين على حسم السؤال الأبدي: هل كان التغيير خيارًا حرًا أم قيدًا فُرض علينا؟

إنها لحظة إدراكٍ مريرة: أن تفقد نفسك في زحام ذاتك الجديدة، وأن تعجز عن التعرف على ملامحك القديمة أو احتواء وجهك الحالي… ؛ فالحيرة هنا لا تحتاج إلى حدث جلل، بل إلى شرارة داخلية تُشعل تيهًا عميقًا، وتتركك عالقًا بين هوية فقدتها وأخرى لم تتشكل بعد… .

الخوف هو الحارس الدائم لبوابات هذا التغيير… ؛ خوفٌ يتلون بأشكال لا نهائية، متغذيًا على ذاكرة الفرد وعلاقته بمحيطه، بالطبيعة، وبنفسه… ؛ وحين يسعى الإنسان إلى الهروب من خطرٍ يرهبه، قد لا يجد مخرجًا سوى أن يبدّل شكل الخطر نفسه، فيظن أنه نجا، بينما هو في الحقيقة انتقل إلى سجنٍ آخر… ؛ هكذا تتكرر عمليات التغيير وكأنها طقوس لا فكاك منها.

أحيانًا يعود المرء طوعًا إلى خطرٍ قديم، إمّا لأن الخطر الجديد أكثر فتكًا، أو لأن القديم بدا، بالمقارنة، أهون شرًا… ؛ وفي كلتا الحالتين، فإن مجرد مقارنة الأخطار يعني أنك بدأت تتلمس ملامح ذاتك الراهنة وتعيد قراءة ذاتك السابقة، وهي لحظة نادرة لا يبلغها إلا من اقترب من عتبة النضج الروحي.

لكن معظمنا يظل يتخبط بين ذواته المتعددة، يستسلم عند أول صدمة، أو يعلق في دوامة لا تنتهي، حيث الروح تترنح بين فقدان واكتساب، بين ماضٍ مألوف ومستقبل غامض… ؛ فالتغيير قد يعني فقدان صفة، أو شعور، أو مبدأ، أو شخص، أو حتى الذات نفسها… ؛ وفي المقابل، قد نكتسب أشياء جديدة، بعضها يشبه الأمل وبعضها أشد قسوة من الإحباط.

التغيير المطلق وهم، فحتى الحقيقة المطلقة تتخللها ظلال النسبية، وتتقاطع معها احتمالات الشك… ؛ وفي بحر الضياع العميق، نغوص ونطفو بلا انقطاع، نقترب من القاع حيث الأسماك الجائعة التي تناديك لتبتلعك، ونلمح في الأعلى أشعة الشمس والقمر تدعوك للصعود، فتظل ممزقًا بين انجذابين متناقضين.

إنك عالق بين الماضي والمستقبل، في صراع أزلي، في حرب باردة مع نفسك، في شوقٍ ورغبة واستسلام في آنٍ واحد… ؛ ومع ذلك، تظل تسبح… لا غرق كامل، ولا نجاة نهائية.

التغيير احيانا ، ليس بابًا يفتح على عالم جديد، بل بوابة دوارة تدور بك في اتجاهات مختلفة لتعيدك، بطريقة ما، إلى نفس الممر المظلم. أنت لست الشخص الذي خرج، ولست الشخص الذي دخل، بل كائن بينهما، نصفك ظل ونصفك ضوء، نصفك ماضٍ ونصفك مستقبل.

الخطر، في هذه المتاهة، ليس وحشًا في الخارج، بل مخلوق يغير جلده داخلك، يتخذ شكلاً جديدًا كلما حاولت الهرب منه… ؛ وفي كل محاولة للنجاة، تكتشف أنك تغيّر القفص لا أكثر، وتمنحه طلاءً مختلفًا.

هنا يصبح الضياع نوعًا من الاستقرار، استقرار داخل العاصفة، حيث تعتاد الدوران فلا تعود تفتقد الأرض… ؛ ومع كل دورة، تخلع جلدًا وتلبس آخر، حتى تنسى لونك الأول، وحتى يغدو السؤال عن حقيقتك الأصلية بلا معنى.

 

اترك رد