منبر العراق الحر :
المتن الروائي يمتلك براعة فائقة في الجانبين : الصياغة الفنية في شكلها الحديث المتطور في جنس الرواية القصيرة جداً, ومن جانب التداعيات الرمزية في التعبير الذي يحمل دلالة واشارات البليغة المعنى والمغزى , في بعد رؤيتها في الجانب الفكري والسياسي والاجتماعي والديني , بأنه يغور في العمق التناول الشجاع في كشف العيوب التي تقود في انحراف الحق والعدالة باسم الدين من قبل اصحاب العمائم الدينية المزورة والمنافقة . التي كشفت عن مضامين جوهرها الحقيقي بدون اقنعة .تشكلت في محطات هذه الرواية القصيرة جداً , هذا الوليد الحديث خرج من رحم الرواية , في الصياغة المركزة والمكثفة , والترميز البليغ في رسائلها الساخنة والملتهبة , في عمق المعنى الدال من صلب الواقع ومعطياته , و بما تحمل من معاني ومفردات متنوعة الجوانب , وفي تداعياته تجلياته المكشوفة وغير المكشوفة , بل السرد يغوص في أعماق الأسرار والخفايا القصر الحاكم والناهي الاكبر , يعطيها البعد الرمزي و دلالته , في سبيل إيقاظ العقل من سباته بالرنين المدوي الذي يثقب طبلة الأذن , لقد وظف الاستاذ حميد الحريزي بما يملك من طاقات مبدعة ومحاولات تجريبة خلاقة في السرد الروائي , أن يوظف ويشتغل على هذا الجنس الجديد , الذي يسمى ( الرواية القصيرة جداً ) ويحمل ريادته من خلال أعماله الروائية المتعددة , في فن السرد الروائي الحديث العراقي , وهذا الشكل الأدبي الجديد , يحمل كامل مواصفات الرواية الكاملة . ولكن براعته الفنية تجاوزت , بأنه وظف لسان المتكلم بشخوص الحيوانات في احدث السرد , أن تكون هي الفاعل والمحرك في المتن الروائي , وهذا الجنس الأدبي في توظيف الحيوانات في السرد الروائي , هو أدب قديم منذ زمن الاغريق وحتى اليوم , مثل رواية ( مزرعة الحيوان / جورج اورويل ) بأنه وظف روايته السياسية بشخوص الحيوانات , بالضبط مثل ما فعل الاستاذ حميد الحريزي وظف روايته السياسية برسائلها المتعددة الجوانب بشخصية ( الكلب ) في تدوين سيرته ومذكراته الحياتية , لكي يعبر عن الواقع وارهاصاته والمحركات التي تقوده وتتحكم به , بدون شك أن معطيات وانطباعات جنس الرواية القصيرة جداً , تلبي متطلبات العصر الحديث , الذي تتحكم به السرعة والاختصار الشديد دون مطولات سردية . ومذكرات الكلب تفتح باب للحوار والجدل والمناقشة , في تأويل شفرات الرمزية , التي امتلأت في ثنايا السرد الروائي , في تقنياته الحديثة ورؤيته السياسية والايديولوجية , التي سلطت الضوء الكاشف في الخداع والدجل والنفاق في جبة الدين من اصحاب العمائم المزورة قلباً وقالباً , التي تأخذ معالم شكل ( الديستوبيا ) في الدولة الدينية , بكل بساطة استخدم رمزية الكلب في سرد مذكراته , لأن الكلب معروفاً بطابع الوفاء والامانة , وعدم الخيانه الى ابناء جنسه أو جلدته , مهما انحرف سرعان ما يعود إلى رشده الى احضان أبناء جنسه , ولكن لهذا الرجوع ثمن باهظ , بينما نجد جنس البشر بسهولة جداً ان يخون ويتنكر الى ابناء جنسه وجلدته , بل يقف بالمرصاد لهم في الموقف المعادي , ويتباهى بهذه العدوانية والدونية , والخاصية العدوانية الخبيثة في جنس البشر , غير موجودة في جنس الكلاب , وتدور عجلة السرد في البداية , هو ما أحدث صدمة للكلب ( حنفوش ) بعد موت رفيقه (ابو عليجة ) فبعد انتهاء مراسيم التشيع والدفن من قبل اهالي حي التنك , اقسم الكلب ( حنفوش ) فوق قبر رفيقه قائلاً ( يا أخي لم تسمح لي الظروف ان اجيب على سؤالك لي , منْ أنا وكيف وصلت الى حي التنك ؟ سأخبرك بكل التفاصيل التي لا تعرفها عني وانت في قبرك , وقد ألحق بك قريباً ) ويبدأ بسرد تفاصيل حياته في مذكراته اليومية , منذ أن كان جرواً اختطفوه من الشوارع , وجلبوه الى بيت السيد الكبير , الذي أوصى بالاعتناء به وتربيته و تدجينه من اجل ان يكون من جوقة الحاشية والاعوان , أن يكون من الجوقة الببغاوية , التي لا تعرف سوى العظمة والتمجيد السيد صاحب القصر , الذي يملك الصولجان والجاه والنفوذ والمال الحرام , وبذلك ادخلوه في حضيرة القطيع , وعرضه على الطبيب البيطري , في التحليلات الطبية , وزرقه ببعض اللقاحات , وإعطاءه بعض الإرشادات الطبية والصحية الضرورية , ليكون سليماً وقوياً بالصحة والجسم المتعافي , وقاموا الخدم بالواجب حسب التعليمات ( أمر الخدم تحميمي وغسلي جيداً بالشامبو والصابون المعطر , وتخصيص مكان خاص لي واطعامي , مما أثار استغرابي كثيراً , هل أنا في حلم أو علم , ما هذه اللحوم وماهذه العناية الخاصة والروائح العطرة أطعمت واكلت الكثير من اللحوم الحمراء والبيضاء , وقد كنت احلم بعظم مكدود وبعظام سمك ترمى لي من قبل اسيادي الفلاحين الفقراء في القرية , كنت اغتسل في ماء النهر الخابط , ولا اعرف معنى الصابون ناهيك عن الشامبو !! ؟؟؟) لذلك انتقل من حالة التشرد والفقر والبؤس , الى حالة راقية من البذخ والنعيم , بالضبط مثل حالة اباطرة اليوم بما يتنعمون من الرفاه والرخاء المتخم , بينما كانوا بالأمس في حالة بؤس وفقر مدقع سواء كانوا في اوربا أو في ايران , هذه الطفرة الهائلة لم تخطر في بالهم حتى في الأحلام , ولكن تناسوا وتجاهلوا حياة الفقر والمعاناة في المعيشة الصعبة والقاسية ( اقف احياناً أمام القرويين التعساء وخاطبهم :
– انتم محرمون من أكل لحم الطير والاسماك والدجاج الذين تربونه في بيوتكم ولكنكم تأتون به لهؤلاء المكرشين الأثرياء المتخمين بشتى أنواع المأكولات التي لا تعرفون انتم أسمائها أو طعمها وشكلها ) هذه المفارقة الاجتماعية غير العادلة , ولكن غشاوة العقل بالبصر والبصيرة , لا ترى ولا تسمع ولا تفهم ولا تدرك , لأنهم في حالة التخدير الببغاوية ( فيا لكم من بؤساء كل ما تصبون اليه كسب رضا اسيادكم , الذين كل ما يفعلون هو الإمعان في استغلالكم وامتصاص دمائكم ودماء عوائلكم ) لم يتوقف السادة الأباطرة على البذخ والنعيم , بل انغمسوا بالمتعة الجنسية في الليالي الحمراء , و يغدقون المال الوفير دون وجع ضمير ومن ضلع البسطاء والتعساء , ولكن الغريب في الأمر , ان يتركون زوجاتهم بحرية ان تتبرج تتجمل بالالوان الفارقة , وتتزين بالذهب والمجوهرات والحياة المزينة بالالوان الوردية , بينما يحرمون المرأة من كل شيء بسيط بشكل صارخ في الانتهاكات , وتزويج القاصرات الصغيرات دون ارادتهن ورغباتهن بحجة المحافظة على الشريعة والناموس . والكلب ( حنفوش ) يفضح أسرار ما يدور في داخل قصر السيد الكبير من فضائح ومهازل خالية من السلوك السليم ومنطق المعقول , ويتمادون في حالة الذل والإذلال والمهانة لجنسهم من البشر , حتى يحرمونهم من حق الحياة والعيش الكريم . بل نجد شرائح من الفقراء تعتاش في رزقهم اليومي , في البحث في حاويات الأزبال , وهم في بذخ النعيم والحرير في فردوسهم المرصع بالذهب والدولار , ويكونوا سيفاً قاطعاً وحاداً لكل من يتذمر على المعاناة , لكل من يطلب بحقوقه الشرعية في الحياة والعيش , لكل من يرفض حالة البؤس والتعاسة , والمسحراتي يدق طبلته في استيقاظ النائمين في سبات نومهم ( يا ناس اكعدوا , انباكت بيوتكم وانتهكت أسراركم ) و (يا ناس اكعدوا سرقكم الحكام وخذلكم الإمام , فالى متى تبقون نيام ). ولكن خناق الازمة الحياتية , ترفع رصيد التذمر الى حالة الغليان العارم الى الاعلى , ولكن تواجه بالعنف المفرط , كل من يرفع صوته بالرفض والتذمر , توجه إليه التهم الجاهزة في قوالبها , نجس . كافر . ملحد . عدو الله والدين , ولا يؤمن بالله الخالق عدو الدين والإنسان والوطن , يقويض الأمن والنظام , وبذلك يحق شرعاً قتله أو اغتياله , او قطع لسانه أو يديه , او غربلة جسمه بطلقات الرصاص , لانه يهدد دار السيد المأمونة . حتى لو كان الامام علي ( ع ) حياً لقتلوه شر قتلة واتهموه بشتى الأوصاف التي تبيح القتل والاغتيال , و يسترشد بقول الشاعر مظفر النواب ( أنبئك علياً …. لو جئت اليوم لقتلك الداعون اليك وسموك شيوعياً ) .
هذه معالم الدولة الديستوبيا . ولكن احد الابطال من حي التنك تبول على تمثال الرئيس , وهذا يعني تجاوز الخط الأحمر في التجاوز الخطير , ويفتح باب العنف والإرهاب , لاجهاض كل بادرة إشعال شرارة قد تكون صغيرة , ومن يمكن ان تتحول الى بركان من الغضب الساطع في الساحات والمدن , لهذا السبب الخطير , اصدرت مديرية الامن العامة بياناً تحذر بشدة , لكل منْ تتسول له نفسه بالتطاول على بيت السيد أو الرئيس القائد , وكل منْ يتجاسر يكون نصيبه الموت والاختطاف والاغتيال . وضمن هذه الاجواء الارهابية المرعبة , اصبحت حياة الكلب ( حنفوش ) في خطر جسيم , لانه خرج من باب الطاعة وحضيرة القطيع , واصبح يحرض ضد بيت السيد الاكبر , وكانت عاقبته الموت المتوقع . كما وعد رفيقه ( أبو عليجة ) عند قبره بأنه سيلتحق به قريباً ( في صباح اليوم التالي وجد عمال القطار , وبعضهم من سكنة حي التنك , جثة مهروسة على سكة القطار , فقرر احدهم دفنه الى جوار قبر رفيقه ( ابو عليجة ) , ولكن هؤلاء الاباطرة ينسون أو يتناسون الحكمة الصاعقة , لكل ظالم وطاغي , بأنه لا يمكن الانفلات من المصير المحتوم ( لو دامت لغيرك لما وصلت اليك .
جمعة عبدالله