التصحر في العراق الغني….زكي عبدالكريم حسن

منبر العراق الحر :

قيل قديماً وثبت في المراجع والكتب والصحف عن ارض السواد ، وشاهدناها في العيّن المجرّدة عن بعد للذين يزورون ويغادرون محلقين بسماء هذا البلد – بلد الحضارات التي سُميت سومر واكد واشور وبابل الخ …
فمن قديم قيل عِرق وجاءت نسبة الى عراقة الحضارات وقيل مرة لكثرة الزرع والنخيل حتى تشابكت العروق ثم قيل يأتي الى هذا البلد عرقَ ومن اتجه عكس ذلك نحو الجزيرة العربية (نجد) أي الى بلاد نجد والحجاز . ومن هذا وذلك بقيت ارض السواد والحضارات ، مرة وجدت اثارهم شامخة في الألواح والمسلات وقوانينها ومرات قدمت جيوش الجار المتلهف للاستحواذ ومرة بنيت فيها عجائب الدنيا السبع ومرات الغيت اسوارها وليس اخرها هدمت اسوارها وداست سنابك الخيل خلفاءها ومرة اصبحت مخازن للحبوب في الازمات والحروب ومرات داهم الجوع اهلها ومرة اصبحت مخازن للمياه حتى فاضت واغرقت اهلها ومرة جفت انهارها وبحيراتها وسدودها.
ومن الصعوبة ان تخاطب الاخرين بشيء بعيدا عن عيشهم وارزاقهم واحيانا حتى لو كان فيه حياتهم ، ولنبسط الموضوع ( التصحر) .
يوم كنتُ طفلاً اعيش في المدينة ولا اشاهد الا المبادئ الاولية للزراعة وعلاقتها بالماء . فالأرض يتم حراثتها بالوسائل القديمة ( المحراث) الذي تجره المواشي والماء يسقي الارض سيحا او بالواسطة ، يسمى الناعور وتسمّد الارض ب (الروث) بقايا مخلفات الحيوانات وله فوائد اخرى . مع هذا الخير لا ميثيل له واذا سالت أي شخص ، سيقول لك ( خير) ويقال ان الناس كانوا يقولون في الحرب العظمى والحرب العالمية الثانية ” لم تصل المجاعة في العراق الا في شيآن هما الخام الاسمر والسكر ” ، الاول لتكفين الموتى والثاني استعيض عنه بمادة تشبه السكر تسمى (التند) , واستمر عمل كبس الصوف والتمور وحلج القطن والدباغة وجمع عرق السوس والشعير والعفص وغيرها.
وبكل اسف سأـذكر بعض الحقائق من خلال ما ادركه الماً لما يحدث في بلاد ما بين النهرين .
فقد ارتقت درجات الحرارة بحدود الغليان وان الله تعالى قد وضع لكل المخلوقات حدا من حرارة صيف وبرودة شتاء وبتناسق يحمي الكل وفي منطقة معتدلة شمالية .
والمصادر المحلية تقول ان الغازات بسبب الصناعة واحتراق المناطق الخضراء وذوبان الثلوج واسباب كثيرة .
في المدرسة الابتدائية وحتى المتوسطة نذهب في رحلات ولا نفكر في شيء اسمه (المظلة) من حر شديد او مطر وحالوب (برد) ودائما نجد سهولة في الارض التي سنجلس عليها وعادة ما تكون مكسوة بالحشائش والضلال لوجود النخيل والاشجار التي تعطي منظرا جميلا وهذا المجال يأتي من الماء حتى لو ب (التنقيط)
عمري تجاوز السبعون واتذكر احداثا في الروضة أي عمري 4سنوات وكنا في موسم الشتاء والذي من ميزاته البرودة والامطار وارتداء الملابس الثقيلة والاحذية الخاصة (الجزمة) وفي المدرسة كنا نسمع المعلم يقول ” الشتاء ابو الخير” ولكن كان فهمنا قاصرا ، لاننا لا نرى خير ، فالفقير لا يأكل الطعام الدسم وجسمه يبرد وداره البسيط يتسرب اليه الماء وملابسه غير كافية لتقيه عن البرد ..
وفي نهاية الخمسينات من القرن الماضي – 1958 وكنا في مرحلة الصبا وكان منزلنا لا يبعد سوى 80 م عن النهر الخالد – الفرات وفي فصل الربيع – ذوبان الثلوج او فصل الشتاء موسم سقوط الامطار ، نتسارع لمشاهدة حملات التبرع بسد فتحات المياه خوفا من غرق المدينة حتى اتذكر ان هناك ساتر (حاجز) يُسمى ابو جداحة الاول والثاني والثالث ولاتزال اثارها باقية واصبحت شوارع تربط الاحياء السكنية بعد توسع المدينة نتيجة الهجرة من الارياف لعوامل يتغاضى عنها المسؤولون في الحكومات المتعاقبة سابقا وحاليا؟
ومنذ اكثر من 30 عاما مضت ، فقد جفت الجداول والترع والانهار حتى اصبحت السدود التي شيُدت في العهد الملكي عديمة الفائدة ، لأنها لا تخزن مياه فصل الصيف ولا تولد الكهرباء وعديمة الفائدة من الناحية السياحية وتنعدم الاسماك لأنها انتحرت وماتت بسبب الملوحة .
وعموما كنا في المدرسة الابتدائية نتفاخر ب ( القرنة وتعانق نهريّ دجلة والفرات في كرمة علي) حتى ان النهر قد ذكر اسمه في القران الكريم وماءه عذب ومرة تراه صافيا ومرة تراه غرينا حسب المواسم وسرعة الجريان .
البحيرات ما قبل السدود – سد دوكان وسد درندخان وسدة الكوت وسدة سامراء … الخ .. وهي احتياطي للزراعة صيفا وما شط العرب نسبة لمجرى مائي عريض يصب في الخليج العربي ولأن الشط يجري في ارض عربية – العراق – سُمي بهذا الاسم وتميزا له عن ارض يسكنها غير العرب – بلاد فارس – ايران حاليا ، واليوم ومع الاسف مياهه مالحة اثناء المد من الخليج المتصل بالبحر ، واليوم الماء اثناء المد مذاقه ليس مجاً فقط بل رائحته مثل مخلفات الانسان ولأن الانهر التي كانت تصب به تحول مجراها واستبدلت بمخلفات الانسان والزراعة – البزل- والمصانع وغيرها من الجارة المُملحة تركيا – شيدت السدود لحجر المياه وايران فعلت مثل ذلك. اما فروع دجلة فلننظر الى الطبيعة والبيئة البشرية ، تكاد لا تسد حاجة الزراعة وارواء النباتات وحتى وصلت الحاجة للشرب واخيرا وليس اخرا ، بدأ الكيان الصهيوني مشاركتنا بمياهنا ويوم تأتي من يستبدل قنينة النفط بقنينة ماء والسبب حكامنا وقد اتضح انهم لا ينتمون لهذه الارض والله يعين الاجيال القادمة .
دول كثيرة لا توجد فيها انهار وتقع على البحار والمحيطات وبلدننا العربية خير مثال لكنها منذ سبعون عاما كررت مياه البحر وزرعت الصحراء وشربت الماء واستخرجت الملح . فلكم الله ابنائنا واحفادنا ومزارعينا من هؤلاء اللصوص .
كنتُ في سوريا لفترة من الزمن ولمستُ وشاهدتُ نسبَ المياه مُتدنية ، اسوةٍ بالعراق رغم دخول الفرات ثم يتجه نحو العراق ورغم اختفاء رافد بردى كما ذكرت سابقا ، لكن الفرق ان السوريون يستغلون فصل الشتاء وتساقط الثلوج ثم ذوبانها ، فهي لا لتذهب هدرا بل اقيمت سدود محلية في نهايات الوديات ولذا نرى عكس ما كنا نراه سابقا من هجرة الاغنام والماعز والابل والابقار صعودا ونزولا من الجزيرة الى الشام وكذلك العكس .
اما اليوم والامس وقبل عدة عقود فهذا لا يحدث لتوفر المياه للمواشي وللزراعة تعويضا ، فنرى اسعار اللحوم والاسماك والدواجن متوفرة وتكاد اسعارها ثابته ، وهذا ما قامت به سوريا لتعويض النقص من المياه بسبب السدود وملئ الوديان لأجل بعيد بدون اخذ رأي الطرف المتضرر . والمؤمنون الاخوة ونفس الشيء من الجانب الاخر الاسلامي الذي حتى يمنع المياه عن اخيه بدون الاستفادة والطرف الثالث المتضرر لا ُيعير للأمر اهمية وبدون أي اعتبار لهذه الثروة التي هي عصب الحياة . كما يقول احد عباقرة وزارة الري في لقاء متلفز ” ان البصرة لن يكون فيها شحة ماء شرب لمدة سنتين “.
شكرا للدول الاستعمارية (مجازاً) قبيل خروج العراق من الهيمنة والسيطرة والاسترليني التي قامت ببناء السدود والتي تُصنف بالبسيطة قياسا بالعلوم والتكنلوجيا والافكار الحديثة التي يكون السد بناءه فوائد جمة ومن هدر الماء الفائض بل العمل في دولة كالعراق الذي يخزن ما توفر من الماء في الخزان الطبيعي الا وهي المنخفضات – الاهوار – في وسط وجنوب العراق كما الاقدمون في عصور ما قبل التاريخ – ثروة سمكية ، مياه للشرب ، للزراعة – لذا فأن الطيور المهاجرة خلال الرحلات من اواسط اسيا الى العراق تحديدا ثم اوربا وبالعكس ، هذه التي ذكرتها قد انتهت وانتهى – اللقلق والغراب وانواع الاوز النادر وحتى طائر البوم الابيض التي نراه فوق البنايات والمآذن .
فالأهوار في وسط العراق جفت ولا تكاد تكون سوى برك ضحلة اما جنوب العراق فقد شملت – البشر والجاموس والسمك – وهذا يخلق مشكلة الهجرة المحلية والتركيبة السكانية والبطالة والسكن والحاجة للماء وازدحام الشوارع وقلة عدد الاطباء وارتفاع الايجارات والمزارع تناقصت واستهلاك الفواكه والخضر تناقصت والكهرباء عادة مشكلة والصراع على الوظائف محموما وفقد الناس اعصابهم وبدأ الشباب يفكر بالهجرة تاركا والديه مضحيا بالعادات والاخلاق متجها لصوب العالم المتمدن ونصفهم لا يصل الى وجهاته بل يكونوا طعاما للمفترسات المائية ؟؟
هنيئا لكم يا قادتنا القدماء والجدد ، فأنتم من نفس الطينة !!
ان الامم المتحدة منظمة دولية اسست في اعقاب الحرب الكونية الثانية بهدف حل المشاكل المتعددة ولم يكن للماء الشيء الكثير ولكن عندما شح الماء ، بدأ الصراع ، فتارة عواصم افريقية سميت بأسم نهر الكونغو – الكونغو شنساتا ، الكونغو برازفيل ومرة سمعت ورأيت – نهر الاردن – وحصيلته من مياه جبل الشيخ وبحيرة طبريا والحوّله ويصب في البحر الميت وهذا ما حدى بهذا البحر ان ينخفض عشرات الامتار وتكاد تجف البحيرات ، فنرى الكيان الصهيوني يبحث عن المياه من – سد النهضة – في اثيوبيا وسحبه عبر البحر الاحمر وترى مصر الفائدة من النيل بتوصيله بالمضخات – السايفون – الى صحراء سيناء واخراجه مرة اخرى على شكل ابارا للزراعة بالتنقيط وهي تحسب حساب السكان والزراعة والحاجة مستقبلا واثيوبيا – سد النهضة – تملئ الوديان والفائض يعود للبحر دون فائدته للزراعة او حتى للكهرباء بل لشرب الحيوانات فقط .
كل هذا والمنظمة الدولية لا تبت بالموضوع الذي يثير مشاكل اقتصادية سياسية حتى ان وزيرة الخارجية الاثيوبية لا تعرف كيف تصف الموقف واسماء الانهار والسدود والدراسات وماهي الا مشكلة – زوبعة في فنجان –
ان انخفاض نسب الاراضي المزروعة بالمحاصيل اليومية – الفواكه والخضروات – لعوامل عدة منها العمل اليدوي البطيء والقديم وبأساليب عفى الدهر عليها ، الخالية من الاسمدة والمكننة والمضخات والتي اصبحت عديمة النفع مما اضطر اصحاب البساتين بتحويلها الى قطع سكنية تُدر ارباحا والدولة العراقية ملتزمة الصمت وحتى لا يكلفون انفسهم لطرح هذا الموضوع فكيف لا تنتهي الصناعة اذا كان هذا حال الزراعة مع العوامل الاخرى ويصيح العراق مستوردا لكل متطلبات الحياة اليومية ووصل الامر الى ابرة الخياطة وعلبة اللبن الحليب ؟ – وبدأ الجيل الجديد اللاصاعد – المتحضر- يبحث عن الحاسوب والملابس الضيقة ، وفي الجانب الاخر شجرة النخيل التي تراجع عددها وانواعها تارة بسبب الحروب وتارة اخرى اهُديت الفسائل الى بلدان اخرى وتارة للوقود والارض تخسر قيمتها يوم يتجه مالكها لأمتهان عمل على خلاف ونقيض معها كالإتحاق بالخدمة العسكرية او جبرا او عامل بناء وبهذا تحول المزارع او الفلاح الى عامل يسحب عربته ويعيش في عشوائيات المدن ؟
فضيحة او حتى خيانة في كل المقاييس بأن تشاهد اشجار النخيل التي تُعطي الثمار لأكثر من 40 مليون فردا من ثمار التمور التي تذهب الى غير عودة ، وبدأنا باستيراد اجهزة التعليب لغرض تحسين التصدير ، والمُحبط في الامر انهم يستوردون تمورا من دولة صديقة ليس فيها سوى واحات متناثرة وحتى من لديه نخلة وزرعها اباءه يتركها دون ان يكون وفيا لذكرى زارعيها او يهملها وتصبح عبئا ولا يُعالجها من الامراض ومثالاً – ان احدى المصارف الزراعية بدأ يمول للتسليف او بناء الدور تاركا النخيل في دائرته دون تلقيح او تكريب او جنيّ محاصيلها؟
ولو عاشَ الشاعر بدر شاكر السياب – لغير ابيات شعره في انشودة المطر :

عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر.
عيناك حين تبسمان تورق الكرومْ
وترقص الأضواء… كالأقمار في نهَرْ
يرجّه المجذاف وهْناً ساعة السَّحَر
كأنما تنبض في غوريهما، النّجومْ…
فلم تُعد مدن العراق عموماً ومدينة البصرة خصوصاً (عيناها غابتا النخيل على ضفاف جانبيّ شط العرب ولم يستطع المجداف ان يرجه لكثرة الزيوت والمخلفات ) ان جازت الاستعارة ، من الحروب الى التجريف والعرصة ” البور” الجرداء وفعل بني البشر ؟؟
*اعتقد ان نهاية العالم قريبة :
– ان الزراعة هي حرفة الغالبية من السكان الذين ينتشرون في القرى والارياف ، فالقوانين التي تخص الزراعة ، ما اكثرها ولكن من المفارقة ان تجد دوائر التسجيل العقاري تروج البيع والشراء وتحويل البساتين الى اراضي سكنية حتى لاتضع عوائق او رسوم او ضرائب للتقليل من يهدر الثروة الزراعية .
– الاشجار دائمة الخضرة ، الظليات ، لها فوائد عدة منها تعطي للناظر منظرا جميلا وخاصة بين المدن السياحية والاثرية وذات الطبيعة الخلابة ، ويضاف لها الزهور بألوانها وكذلك واجب حماية من يجلس تحتها من اشعة الشمس القوية في منطقتنا، وفائدة اخرى تكون مصدا للغبار الصحراوي المرافق للرياح العاتية وبدورها تحد من زحف الرمال باتجاه المناطق الخضراء او المدن .
واخيرا .. ايها المسؤولون قاتلوا من اجل الماء مثلما تقاتلون من اجل تراب الحدود فكلاهما يحتاج للآخر . ومن لا يستطيع الحصول على مياهه لا يستطيع زراعة ارضه ؟
يا ايها الفاسدون اثبتوا انكم احفاد من قاد البشرية لقرون عديدة اثبتوا من علّم البشرية الحرّف والكتابة والزراعة والصناعة …
وسواء عشتُ ام لا.. سأكتب او أوصيّ بإعادة كتابة نفس الموضوع لأنكم لم تفعلوا شيء .
زكي عبدالكريم حسن
العراق

اترك رد