منبر العراق الحر :
يوم أتت إلينا في القرية وبطباعة دار الآداب الرواية المذهلة لنجيب محفوظ أولاد حارتنا، بدأنا بقراءتها واحد بعد الآخر، وحين انتهينا منها افترضنا أن قريتنا (أم شعثة) حارة كبيرة من القصب، ولكن ينقصها شوارع الذكريات، فكل ذكرياتنا هنا على ضفاف الهور أو في بيت سكن المعلمين المجاور لمدرستنا، لكني وبافتراض مني أتخيّل المكان حارة كبيرة تتناسخ فيها الأيام والبشر والدواب.
صورة الحارة المفقودة في مكان الحلم يفسره المكان بأن المياه لا تسمح لليابسة أن تتمدد أكثر من عشرين بيتاً فتنتفي الحاجة للحارة والشارع والزقاق، وعندما أسألهم، لسان حالهم يجيب: حارتنا رحمة الله.
فأرد: كل طفولة تحتاج إلى حارة.؟
فيردون بذات لسان الحال: أطفالنا حارتهم السماء يسيرون في شوارعها بأجفانهم فيصلون ويختبئون في غميضة (الجيجو) أو المطارد وراء كرة من القماش وأحياناً يسابقون قطة يحاصروهم بالصراخ فتركض مذعورة فيركضون وراءها، ومن يمسكها هو الفائز.
أمكنة بحارات فتتشابك قصصها، وأمكنة من دونها لتبدو الحياة بسيطة لا تنفعل فيها خواطرنا، ولن نبحث عن زقاق أو (ختلة) نراجع فيه أنفسنا ونراقب العالم الآخر مثل اللصوص، وعليه فأنا أفارق تلك الأمكنة التي حاراتها أغاني الراديو وأذهب إلى مدينة تعج في الحارات هي في مجملها الحارات التي عاشت صبا الرحالة ابن بطوطة حيث طنجة القديمة التي أفتّش بين طرقات حاراتها عن صدى خطوات ناقة الرجل الذي زار الأهوار قادماً من طنجة ليصل عبرها البصرة، ثم يبحر إلى عمان واليمن ومدن الهند البعيدة.
تتشابك البيوت في طنجة القديمة وتتعدد في المكان الواحد اتجاهات الشوارع، زنقة المبروك وزنقة شكري وحارة ابن بطوطة حيث ضريح بشاهدة تتحدث عن رجل حمل طنجة وسحرها وأساطيرها، وعاد ليقص على والي فاس ما رأى وسمع وعاش. ثم دلفَ إلى شوقه أن تكون الحارة ملاذاً لعمر طويل من الترحال.
هي ذاتها الحارات التي سكن فيها صاحب رواية الخبز الحافي، محمد شكري أول مجيئه من قريته آل شكير على الحدود الزراعية ليسجل تفاصيل المكان (الحارة) بمهارة وإباحية ومغامرة.
مع ابن بطوطة وشكري أضع لرحلتي صورة مكان غادرته، وكان واضح المعالم كلوحة استشراق تفاصيلها تقول كل شيء. لكن الحارة مكان غامض وألغازه لا نهاية لغموضها.
مضيت إلى هناك أمسك ما تمنيت أن يبقى عطره معي. القصب والقرية البسيطة التي لا يصنع ظلها شيئاً سوى هواجس اليوم البسيط فيما ظل تاريخ المدينة (طنجة) يشد جذوره إلى أزمنة لا تهدأ، ولها وجيز من سرد تلك العصور في عدة تأليفات، وكان الجميع يبدؤون من أخيلة الأسطورة الإغريقية وينتهون بمدينة تشبه الفردوس.
مدينة تتوالد في أرحامها الخيول والسفن والنساء، وتخرج للدنيا مقاهي وحانات وبحراً ونفثة دخان يطلقها القاعد أمام البحر وهو يطوي أيام المدينة دون أن يشعر.
طنجة مدينة للهواية والغواية وإنتاج الحلم، وهي بفردوسها الصغير تعيش لحظتها كما هي دائماً وتتغير هذه اللحظة بما يأتي به المتغير الذي لا تتحسبه المدينة، ومهما كان فمدينة مثل طنجة تتآلف بسرعة عجيبة معه؛ لأنها وليدة حس أسطورة، والأساطير خلقت في أصلها من متغير لا ينتهي، أوله خيال وآخره خيال، وفي محصلة الرؤيا نكتشف أن الأسطورة والمدينة تداخل ولد في رأس مجنون حالم يتمنى الطيران بأجنحة عباس بن فرناس صوب سماء يعتقد أن فردوسها يتراءى في لحظة تجلٍّ كما كان يسكننا في المكان الذي أتيت منه.
الأهوار مكان بلا حارة ولكنه واحة……..!
