قصة قصيرة . الذاكرة المسافرة … الكاتب الاعلامي : الدكتور أنور ساطع أصفري..

منبر العراق الحر :.
أمامَ مرآةٍ كالحةٍ وقفتُ أتأملُ نفسي ، عينانِ غائرتان ، وجهٌ شاحبٌ شاخصٌ تنتشرُ فيه الأخاديد ، تنكّرتُ للخيالِ ، فأخذتُ أشتمهُ ، أضربهُ بغضبٍ وانتصار ، زادَ انفعالي ، بصقتُ ، فسالَ على المرآةِ ، شكّلَ بقعةً استطالت نحو الأسفل ، تراءى لي من خلالها ومن بعيد ، صورٌ متتابعةٌ كأنها تلاحقني ، السماءُ تتقلّصُ ، القمرُ أخذَ شكلاً مُضلّعاً فوضويّاً ، أُناسٌ يعبدون الصخر .
وصلتُ عَبرَ طريقٍ ضيّقةٍ وعرة في الوقتِ الذي كانت فيهِ الشمسُ تُخفي آخرَ شعاعٍ من أشعتها الذهبية عن قريةِ ” أم الصخور ” .
أحسسّتُ أني أشتمُّ رائحةً غريبة ، لا أدري كيفَ صنّفتها بأنها رائحةُ شيخوخةٍ مُقرفة . هربَ الجميعُ مني حتّى الأطفال ، صمتٌ غريبٌ يُخيّم ُ ، بعثرتهُ صرخةٌ قويةٌ تلاها قرعٌ مُرعبٌ للطبول ، مصحوبٌ برقصٍ جماعي مُخيف .
تيبّست شفتاي ، تتفاقم حالتي ، تنحبسُ كلماتي ، قلتُ في نفسي :
لماذا أرسلوني إلى هذهِ القريةِ مُشرفاً تربوياً ؟ ،كنتُ سأعزفُ لهم لحناً جديداً بقيثارةٍ لم يسمعوا عنها من قبل ، سأزرع فيهم حبَّ الياسمين والبخور والسنابل .
الكلُّ أصبحَ يقتربُ مني ، وأنا أتراجع ، أصواتهم ترتفع ، صرخاتهم تدوي ، أرتجفُ خوفاً ، يقتربونَ مني حتّى أحاطوا بي من كل صوب ، أصواتهم ترتفعُ أكثر ، ثيابهم ممزقة ، لا مبالون ، مهترئون حتّى في أشكالهم ، أجسادهم مصبوغةٌ بألوانٍ مختلفةٍ مختلطة لدرجةِ أنه لم يَعدْ بمقدوري تمييزَ تقاسيمِ وجوههم .
بالقربِ مني انهالت عدةُ ربطاتٍ من عيدانِ الأشجار ، انتابني الرعبُ أكثر ، خبّأتُ وجهي بين كفّي ، حفرتُ عميقاً في داخلي ، أنتزعُ أفكاراً تطاردني ، وفي محاولةٍ لتهدئة نفسي تساءلتُ ” قد تكون هذه هي عادتهم في استقبال الضيوف ” .
ولجَ من بينهم رجلٌ قبيحٌ ملونٌ ، غليظٌ بحركاتهِ ، يتصدّرُ وجههُ شاربان غليظانِ كثّان ، اقتربَ مني
امتصَّ شفتيهِ كطفلٍ يبتلعُ الكلمات عنهما ، وقفَ يُتمتمُ بطلاسم ، ظننتها ترتيلاتُ قسيسٍ مخضرمٍ في بهوِ ديرٍ فارغ ، اقتربَ مني أكثر ، أشارَ إليَ ، سألني بوضوح :- كيف وصلتَ إلى قريةٍ لا يدخلها الغرباءُ أيها الوغد ؟ .
تتشققُ جدرانَ ذاكرتي ، استجمعتُ كلماتي ، قلتُ لهُ بصوتٍ مرتجف :- لقد أرسلوني لأساعدكم ، أنا لا أريدُ أن أُصيبَ أحدكم بمكروه ، أنا لستُ بسارقٍ ، أنا جئتُ …… .
قاطعني بقهقهةٍ عاليةٍ صاخبة ، كشفتْ أسرارَ أسنانهِ الشبيهةِ بعيدانٍ محترقةٍ في قاعِ تنّور . صرخَ غاضباً : – نحن نُعلّمُ صغارنا عُلومَ القتلِ ، خنقِ العصافير ، قلعِ الأشجار من جذورها ، حفرَ القبورِ وعبادةَ الصخر ، فهل هناكَ شيءٌ أكثرَ من هذا تريدُ أن تُربي أولادنا عليهِ أيها النذل الغريب ؟ .
قلتُ بصوتٍ خافت :
نعم ، سأعلمهم المحبةَ ، العشقَ ، زراعةَ الورودِ في كلّ مكان ، سأعلمهم الموسيقى ومناجاة القمر .
صمتَ طويلاً بعدَ أن أنهيتُ كلماتي ، تمتمَ بغضبٍ ، أشارَ بيدهِ اليمنى ، انتشرَ إيقاعٌ جديدٌ مصحوبٌ بزغاريد وأهازيجِ النساء . كبّلوني ، عصبوا عينيّ بقطعةِ قماشٍ نتنة ، جرّوني كأعمى في طريقٍ وعرةٍ ، وقدمايَ تتقاذفان حجارةً صغيرة عبرَ سيرنا إلى الأعلى
حاولتُ أن أقبضَ على ذراتِ ذاكرتي المهاجرة دون جدوى ، وتيقّنتُ أنه كما شقَّ موسى طريقاً له في البحر ، عليَّ أن أشقَّ طريقي بين عبّادِ الصخر .
هناك ، فكّوا وثاقَ يديَ ، أزاحوا تلكَ القطعةِ المقرفةِ عن عينيّ ، وإذ بي في مكانٍ مرتفع يحوطني خمسةَ عشر شاباً ، يتوسطهم رجلٌ مسنٌ ، سرعان ما قال لي :
كي تجتاز َ الامتحان بنجاحٍ لمنحكَ شرفَ عضويةِ هذهِ القرية ، عليكَ أن تنزلَ مسرعاً من أعلى الجبلِ إلى أسفله ، وهناكَ ستمكث في مغارةٍ تجدها أمامكَ لفترةٍ نحددها نحن ، أسرع ، هيا ، لا تتوقف وإلا… .
يأتيني صوتُ الذاكرة من وراءِ الأفقِ البعيد ، يُحاصرني ، أهربُ ، أتدحرجُ من الأعلى حيثُ تلقفتني المغارةُ برائحتها العفنة ، ارتميتُ على صخرةٍ ، وسرعانَ ما اكتشفتُ أنها جمرةٌ كبيرةٌ حُكمَ عليها بالسجنِ المؤبد .
أُغلقَ باب المغارة بشدة ، الظلمةُ كثيفةٌ ، خانقةٌ ، الرطوبةُ تتسللُّ إلى شراييني وأحشائي ، تنسابُ كالدموعِ على جدرانِ المغارةِ الملساء .
يحيطُ بي الحزن ، يُحيلُ نوري إلى ظلمةٍ سرمدية ، صوتي يختلجُ ، الليلُ يغفو كالجديلةِ ، أحاورهُ ، أسألهُ بلا أبجدية ، يجيبني بصمت ، أفتحُ حديقةَ الوجدان ، أشعرُ بطراوةِ الندى المزدهرِ في عمقِ الحروف،” آه لو أملكُ حياةً ثانية ” ، أتخاذلُ ، أتهاوى ، تهزمني قهقهات الزمن .
تعصرني النداءات التي أتلقاها من معدتي ، في العمقِ لمحتُ هياكلَ أشجارٍ ، اقتربتُ منها فإذا هي متكلّسة ، اختبأت بين طيّاتها عصافيرٌ كثيرة ، انتابني شعورٌ بالأسى لأنها سجينةُ غربتها مثلي ، ففي الغربةِ كلّ شيءٍ غريبٌ وجديد ، فالشوارعُ لا تحفظُ وقع أقدامنا ، حتّى الجدران لا تعقد معنا صداقةً بسهولة ، مضغتُ شفتي بنهمٍ ، أحاولُ السيطرةَ على النقمة التي تملّكتني ، بكيتُ ، بكيتُ طويلاً دونَ أن أحاولَ تجفيف دمعي بمنديلٍ كنتُ أحمله ، بكيتُ والعصافيرُ تراقبني باستغراب ، كنتُ عاجزاً عن كبتِ حاجتي الطبيعيةِ للبكاء ، بكيتُ إلى أن حسبتُ أن ألمي قد استنفذ كل قطرةِ سائلٍ في جسدي ، وأن الدموع أمست دما .
يمرُّ الزمنُ ، ينتفضُ قلبي كطائرٍ يُدركُ ميعاد ذبحه ، أعيشُ الصمتَ ، الظلامَ والجوع ، لم أعد أقاوم ، تناولتُ عصفوراً ، أغمضتُ عينيّ ، أكلتهُ بريشهِ ، بعظمهِ وبدمه ، كان لا بُدّ لي من أن أقتلَ عصفوراً وأتناوله طعاماً ، غدا القتل عندي محبباً ، وأصبحتُ أتلذذُّ بهذا المنظر اليومي ، وأصبحتُ أتفننُّ ، أنتفُ ريشهُ ، أملصٌ رقبتهُ وأقطع رجليه .
تأمّلتُ الثقوبَ الصغيرةِ جداً المنتشرةِ على جدران المغارة ، انطلقت من أعماقي آهٌ قويةٌ ، شردتُ بعيداً ، انتبهتُ ، أصواتٌ تأتي من الخارج ، الأصواتُ تقترب ، تقتربُ أكثر ، يُفتحُ بابُ المغارةِ ، أبوابٌ جديدةٌ تُفتح ، تنّشقُ المغارة ، سيلٌ من الأطفالِ يتدفقون ، يصيحون بصوتٍ واحد :
صباحُ الخيرِ يا سيّد .
خبّأتُ صرختي بكفيّ ، نظراتي تتمرغُ على مواطىء أقدامهم بحالةِ استعطافٍ لا قعر له ، وبصوتٍ متهدجٍ قلتُ لهم :
نعم صباحُ الخيرِ يا أطفال ، سأشرفُ عليكم جميعاً ، سأعلمكم الحبَّ والموسيقى وكتابة الشعر .
أغضبتهم كلماتي ، أخافني غضبهم ، التصقتُ أكثر وأكثرَ بنفسي ، ماتتْ النداءاتُ في حنجرتي ، تصّببتُ عرقاً ، انفعلتُ ، صرختُ بغضبٍ هستيري مشتت ، أجابوني بصوت جَهْوَري واحد :
ولكن كيفَ تخنق العصافيرَ أيها السيّد ؟ .
ذاكرتي تنثقب ، تضيعُ التواريخ ، الوجوه ، الأسماء ، تتغيرُ هيئتي ، يتلوّنُ وجهي ، تهتريء ملابسي ، تنتشرُ مني رائحةٌ نتنةٌ ، تتصدّعُ المرآة ، تنفجرُ ، تتحوّل إلى شظايا صغيرة تنتشرُ في كلِ مكان ، دمٌ غزيرٌ يبصقهُ جسدي على إيقاعٍ مخيفٍ للطبول .

اترك رد