قصة (صفقة)….هدى الجلاب

منبر العراق الحر :
وقفت الصبيّة بهدوء و ثقة وسط كتّاب و نقّاد
في المركز الثقافي
– اسم عائلتها ليس غريباً على مسامعي أقولُ دواخلي
و أنصتُ بشغف
بينما تقرأ قصيدة رائعة، سرى بأناة عبير مسكوناً بعبق جميل، مع سلسبيل عذب و صوت مموسق راحَ الوقتُ يترنّم طرباً
بينَ آمال معشوشبة.
..
كانَ بعضُ الحضور ينظرُ حَالماً يتلمظ إلى بياض وجه صاف و حمرة شفتين خمريتين و آخرون يغوصون في بحر شِعر بديع يتدفق جمال و حيوية
مِن بين أجنحة فضفاضة تثنّى نور
و لعبتْ آفاق مُتموجة
شردتُ كعادتي حين يراودني هاجس
تذكرتُ أول خاطرة قرأتها في مُعسكر الطلائع
وسط عدد كبير مِن الرفاق،
تجسدّت أمامي ليالِ السمر
و لعبة شدّ الحبل
نحو الأقوى.
أبتسمُ الآن
و أحمدُ الله أنّ البعض لا يُجيد قراءة الأفكار
كي لا يستشف ملامح رحلتي الطارئة
في وقت غير مناسب للتحليق و السفر
تذكرتُ والدي رحمه الله:
ادرسي بجد يا ابنتي، لا تعبثي بالألوان المائية،
الفن ليس للفقراء صدقيني،
ستكونين مُعلمة في مدرسة إنْ شاء الله هذا يطعمك الخبز فقط.
..
كنتُ أهوى الرسم بجنون، أعشق نسيج الورق و روح الألوان
و حضورها الزخم، خاصّة اللون الأزرق البهيّ الذي أراه يموج في بحر السماء،
لماذا لمْ يشدّ أبي على يدي للمثابرة؟
كنتُ أنظر في وجه أبي الطافح بالحنان دونَ جواب يشفي عطشه للاطمئنان على مُستقبلي، كان على ما أظنّ يمقتُ نظراتي المُبهمة المسكونة بعفاريت الليل و شغب النهار.
قرأتُ فاتحة على روحه و صحوتُ على ثناء أحدهم على الإبداع الجديد،
قلتُ في بالي سأشجع ابني على الكتابة، لمحتُ فيه بذرة جيدة قابلة للنمو،
لكن لنْ أقفز على حبال واهمة.
في زاوية منفردة وقفتُ مع الأديبة الصاعدة، بادلتني الشعور اللطيف ذاته كأنها تعرفني منذ زمن بعيد ..
تصافحنا،
سألتها عن اسمها الثلاثي، عن عمل والدها كي أتأكد. صدمني الأمر
و نقلني إلى الوراء سنوات.
..
راغباً مساعدتي يقول بصوت خفيض: – أعرف ظروفك الماديّة، لا تملكين المال لطباعة كتاباتك، إذا كان هدفك أنْ تصل الأفكار إلى الناس، هُناك طبيب يرغب بشراء
ما تكتبين مِنْ شعر و قصص بمبلغ خيالي،
سيضع اسم ابنته المُدللة على الغلاف.
أرد: – هذه ترهات اعذرني.
يقول: – لماذا؟
هو ثريّ يبحث عن الشهرة و أنتِ سوف تكتبين مِن جديد
فأنت مُحيط كلمات يا شقيّة.
..
– لا يا شاطر العبْ غيرها، لو عشت حياتي على الخبز اليابس
لنْ أبيع كلمة.
في بالي: ربّما لا تعني كتاباتي الكثير للبعض، لكنّها نتف روحي
قلبي ذكرياتي وجودي ألمي فرحي عشقي حياتي ..
تباَ للمال الملعون.
بصوت مسموع:
– لا مستحيل.
يستغرب:
– هكذا أنتِ
لنْ تتغيري فقريّة.
يا إلهي الاسم ذاته، عمله، بلده، سبحان الله، “جبل مع جبل لا يلتقي” كما يقولون، لكنْ تلتقي الناس و الأفكار و بعض أسرار. لكن ثمّة شيء جعلني أحمدُ الله أنّ الأدب ما زالَ بخير
و أنّ الإبداع موجود رغم الحرب الدائرة و التخريب و التضليل
و ما زال الأمل بشروق نقيّ ذات حين.
..
رجعتُ إلى حضن بيتي المتواضع أسألني: – هَلْ أخطأت حين تركت مَن يسبقني لرزمة المال المحرزة؟
ضجيج مضغوط سحبني مِنْ شحمة أذني،
قطعتُ الشارع العريض
و أنقذني الله مِن دواليب سيارة مُسرعة ..
تابعتُ المسير
مع تيار لا يُشبهني في شيء
حيث يهرولُ قدر عجيب
و تلهث أنفاس مُتعبة.
..
.. هُدى الجلاّب ..

اترك رد