منبر العراق الحر :
في سياحة جميلة جعلتني أركب القطار الإكسبريس من كولن – بروكسل – باريس – لندن، وأعبرُ نفق المانش المائي، هذا الذي تمنى إتمامه نابليون ليغزو من خلاله بريطانيا ويحقق أمنيته بوضع قدم جزمته على الأرض الإنكليزية.
وصلت مدينة الضباب، ثم بدأت رحلة استعادة أجواء روايات روبن هود وقصص تشارلز ديكنز، وتلك القلاع التي سكنها لوردات الملك آرثر والملكة فكتوريا والتي تتناثر مثل أحجار العقد الملكي في سهول وجبال وسواحل ويلز وأسكتلندا وإيرلندا، وهناك شممت عطر العشب والحجر وشاهدت مستنقعات ينبت فيها القصب فتذكرت الأمكنة الساحرة في الهور الذي ينحدر بعيداً فتركت صدى سيوف فرسان الحملة الصليبية وخواطر فرجينيا وولف حين يصيبها سأم ضباب لندن فتلجأ إلى واحدة من تلك القلاع لتكمل أشواقها مع رواياتها وعدت إلى أزمنة تركتها هناك.
فتذكرت بناية بنيت على شكل قلعة في المدينة قرب نهر الفرات، هي ثكنة الجيش والتي كتب عنها متألماً صديقي المترجم أمير دوشي يوم بدأ الناس بتهديمها وبنوا بطابوقها بيوتاً في ذات المكان يسمونها في تواريخ ما بعد 2003 (الحواسم)، وكان يتحدث لي عن حزنه بسبب هدم واحد من أجمل شواخص تاريخ المدينة، وأكد لي أنها بنيت على يد الإنكليز كما طراز القلاع وأبراج قصر بكنجام، وكان يتمنى على هذه البناية العريقة المعمار أن تتحول إلى متحف وليس تهدم وتصبح أنقاضاً.
وعلى أديم دمعة الحزن على شواخص كانت تعيش بشواطئ طفولتنا كأمكنة للحلم واللعب.
أعود هناك إلى قرى القصب حيث لا قلاع نلجأ في صمتها وتواريخ أسرارها وأبراجها، وبدلاً عن هذا الهاجس الغائب نستعيد محطات الحياة في قلاع نصادفها في كتاب أو لعبة شطرنج أو مخفر حدودي خدمنا فيه في مدن وأمكنة حملت اسم القلعة مثل قلعة دزه وقلعة صالح وقلعة كركوك وقلعة أربيل وقلعة الزعفران في ناحية الشهابي. وقلعة سكر.
كلها قلاع تسجلها أمكنة الحنين إلى ما تركته هناك، مسجلاً وقائع اشتياقنا إلى قلعة أخرى يمتزج فيها الحجر بالأنوثة، ويومها قرر المعلمون أن يستغلوا عطلة الجمعة ليدخلوها مجتمعين، وكانت هذه القلعة الساحرة هو الفيلم الفرنسي (قلعة ساغان) الذي احتوى على أجمل ممثلتين في تاريخ السينما الفرنسية بعد بريجيت باردو، هما صوفي مارسو وكاترين دينوف، يومها أصرّ شغاتي ليجيء معنا، وقال: حرام عليكم تدخلون قلعة إناث باريس وأنا خارجها.
ولأن يوم الجمعة يكون العرض صباحياً في سينما الأندلس الشتوي حيث يمكنه الرجوع إلى أهله بعد الظهر، جاء معنا وتمتع بما شاء الله أن يخلق من جمال. وحين انتهى الفيلم وأضيئت المصابيح بدا الرجل كمن يستفيق من حلم، وقلنا له: الآن عد إلى أم مكسيم يا شغاتي، فقد أغلقت كاترين دينوف بوابات قلعتها.
صمت وقال: الليلة أريد أن أبقى في الفندق وغداً أجيء إلى السينما وحدي لأفتح باب القلعة بيدي. آه لو كانت كاترين دينوف تبيع القيمر، لصارت قلوب كل المعدان قلاع عشق..!قلعة ساغان وقلاع ذكرياتنا
نعيم عبد مهلهل