منبر العراق الحر :
خلال السنوات الأخيرة تزايد الاهتمام بالتصوف باضطراد ملحوظ، وقد طال هذا الاهتمام مجال الأدب كذلك، فظهرت روايات تستلهم التصوف والمتصوفة، ولعل لذلك أسبابا متعددة، من بينها الحنين إلى التدين بعيدا عن التعصب والتطرف، ويلاحظ -في هذا الصدد- أن كثيرا من الروائيين استثمروا، في المدة الأخيرة، موضوع التصوف لكتابة متون روائية، لقيت رواجا لافتا لدى القراء. ولا شك أن هذا الأمر يطرح على النقاد والدارسين جملة من الأسئلة، التي تحتاج إلى أجوبة ملحة، من قبيل تحديد مفهوم التصوف وكيفية تعاطي الروائيين مع هذا المجال الفكري قصد توظيفه في نصوصهم، وكيف تجلت شخصيات المتصوفة في المتخيل الروائي.
طرحنا بعض هذه الانشغالات على عدد من المهتمين المغاربة فكانت أجوبتهم كالتالي:
رأت فدوى الجراري أن التصوف شكل مجالا خصبا للأخذ والرد سواء من حيث تحديد تعريفه أو كشف منهجه أو في تبيان شرعيته، فاختلفت التعاريف ، فأصبحت لفظة التصوف تدل على عدة معان كالدلالة على الصفاء والصفو، حيث كان هم المتصوف هو تزكية النفس وتطهيرها وتصفيتها من أدران الجسد وشوائب المادة والحس، وقد تشير الكلمة إلى أهل الصفة الذين كانوا يسكنون صفة المسجد النبوي، ويعيشون على الكفاف والتقشف و شظف العيش، ويزهدون في الحياة الدنيا، وهناك من يربط التصوف بلباس الصوف، لأن المتصوفة كانوا يلبسون ثيابا مصنوعة من الصوف الخشن، في حين ذهب البيروني إلى أن التصوف مشتق من كلمة صوفيا اليونانية، والتي هي بمعنى الحكمة، وهناك من يراها تجربة روحانية وجدانية يعيشها السالك المسافر إلى ملكوت الحضرة الإلهية والذات الربانية من أجل اللقاء بها وصالا وعشقا، و يرى البعض أن تعريف التصوف بأنه تحلية وتخلية وتجل، في حين يرى البعض الآخر أن التصوف هو محبة الله والفناء فيه والاتحاد به كشفا وتجليا من أجل الانتشاء بالأنوار الربانية والتمتع بالحضرة القدسية.
وقد اهتم الأدب بالتصوف قدر اهتمامه بباقي المجالات، فجل المتصوفة اتخذوا من الأدب سواء شعرا أو نثرا وسيلة للتعبير عن خوالجهم الفكرية و القلبية، ويعد الحلاج من كبار المتصوفين الذين تغنوا شعرا بالذات الربانية، وقد استطاع أن يبرهن على وجود الله اعتمادا على التجلي النوراني والمحبة الروحانية التي يعجز عن إدراكها أصحاب الظاهر والحس المادي.
وعلى مستوى الرواية فقد شكل التصوف وأعلامه إلهام العديد من الكتاب و أسال مداد أقلامهم على المستوى العربي، نذكر “موت صغير” للكاتب السعودي محمد حسن علوان الذي مزج الخيال بالواقع و سافر بنا من خلال سيرة محي الدين ابن عربي منذ ولادته بالأندلس حتى وفاته في دمشق مرورا بمراكش، القاهرة، حلب، مكة، بغداد، ملطية، دمشق… وبين كل رحلة و رحلة هناك حكاية هناك وتد في الانتظار، الرحلة لم تخل من حب و عشق، ارتباط وفراق، مست الجانب الإنساني والذاتي لابن عربي و سعيه للبحث و العلم و الزهد والتصوف فهو ولي من أولياء الله وخادما من خدامه الأتقياء، لا يخشى في قوله حاكما ولا واليا، فقد كان في خدمة رسالته و علمه وبين مواقفه من مفاهيم الحياة والموت والدين.
وعلى مستوى المغربي فإننا نجد رائعة مصطفى لغتيري “الأطلسي التائه” التي سلط فيها الضوء على سيرة حياة واحد من أشهر رجال التصوف في المغرب هو الولي الصالح أبي يعزى الهسكوري، الذي عرف عند العامة باسم مولاي بوعزة، انطلاقا من جبال الأطلس حيث بدأت رحلته بحثا عن ذاته والحقلة المفقودة بداخله. الرحلة كانت مشوقة وممتعة ونحن نتابع حكاية أبي يعزى مع جدته والديه ورحلته التي بدأت برعي الغنم و البحث عن الأعشاب الطبية، التي تلقى معرفتها وخبرتها من جدته.
وقد نقل لنا فيها بعض تجارب المتصوفة و رحلاتهم الذاتية بغير قليل من المتعة والتشويق و الإثارة ما يجعلنا نتتبع و نبحث أكثر عنهم خارج دفتي الأدب، وهذا إن دل على شيء يدل على قدرة الكاتب في إيصال الشخصية و سيرتها حتى وإن كانت ممزوجة بالخيال للقارئ بشكل متميز.
أما حبيبة خيموش فتقول في هذا الصدد بأن العديد من الروائيين استثمروا قصص المتصوفين من أجل تحويلها إلى مادة حكائية بنوا بها خيالاتهم ونسجوا بها خيوط تجاربهم والتي ألهمتهم لما فيها من اختلاف.
وتعرف الصوفية بكونها إحدى المذاهب الإسلامية التي تقوم على أصول وقواعد شرعية ومنضبطة وهي منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله أي الوصول إلى معرفته والعلم به وذلك عن طريق الاجتهاد في العبادات واجتناب المنهيات، يستمد هذا المنهج أصوله وفروعه من القرآن والسنة النبوية واجتهاد العلماء فهو علم كعلم الفقه له مذاهبه ومدارسه ومجتهديه وأئمته .
وتضيف أن حركة التصوف انتشرت في العالم الاسلامي في القرن التالث الهجري بشكل فردي تدعو الى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت بعد ذلك حتى صارت طرقا مميزة متنوعة معروفة باسم الفرق الصوفية والتاريخ الاسلامي زاخر بعلماء مسلمين انتسبو للتصوف مثل: محي الدين بن العربي وشمس التبريزي وجلال الدين الرومي، وتعد ايليف شافاق والكاتب المغربي مصطفى لغتيري من بين الكتاب الذين استثمروا التصوف في ابداعاتهم مع روايتيهما قواعد العشق الأربعون” و”الأطلسي التائه”
تحكي رواية العشق الاربعون عن رحلة شمس التبريزي الطويلة التي تمتد من بغداد إلى قونيا مرورا بدمشق ليلقى حتفه بعدما بعدما أكمل رسالته التي خلق من أجلها وهي البحث عن الله ومعرفته وطلبه من الله أن ينقل معرفته لشخص مناسب.
أما رواية الأطلسي التائه فيحكى لنا فيها صاحبها عن واحد من أشهر رجال التصوف بالمغرب ويتعلق الأمر “مولاي بوعزة”.
فيما لاحظ رضون المتوكل أن موضوع التصوف شكل أرضية خصبة استفاد منها كثير من الروائيين من أجل كتابة أعمالهم الروائية، مما جعلها تحظى بكثير من الاهتمام سواء من لدن القراء أو من قبل النقاد.
ويضيف موضحا وجهة نظره، فيقول بأن تعريفات التصوف قد تعددت وتنوعت، حتى من لدن المتصوفين أنفسهم، فهناك من عرفه بأنه ” الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلق”، وهناك من اعتبره بأنه ” أن تكون مع الله بلا علاقة”، ويمكن تعريفه بصفة عامة بأنه السير في الطريق الزهد والورع والتجرد عن زينة الحياة الدنيا ومتاعها الرخيص، وكذا النفور من كل شكلياتها. ومن أهم أعلام التصوف، والذين تم استلهامهم في بعض المتون الروائية نذكر محي الدين بن عربي، والحلاج، والجنيد، والسهروردي، وابن سبعين، سواء كان هذا الاستلهام مباشرا من خلال الحديث عن هذه الشخصية وسيرها، أو كان استلهاما ضمنيا خفيا غير مصرح به من خلال توظيف بعض أفكار المتصوفين، أو استدعاء مقولاتهم الصوفية. وسنشير هنا دون تحليل أو تعمق إلى أهم الروايات التي نستشف فيها توظيفا لموضوع التصوف، وهي كالتالي: رواية ” نقطة النور” لبهاء طاهر، ورواية ” موت صغير” لمحمد حسن علوان، ورواية ” إشراق العشق” لزياد حميدان، ورواية ” سيرة الشيخ نور الدين” لأحمد شمس الدين الحجاجي، ورواية ” كتاب التجليات: الأسفار الثلاثة” لجمال الغيطاني، وغيرها.
ختم هذه الشهادات محمد البوركي الذي رأى بأنه في خضم التجريب الذي انخرط فيه الروائيون العرب، باحثين من خلاله عن منافذ جديدة تحررهم من تقليد الغرب، وفي سعيهم الحثيث إلى تأكيد هويتهم وتأصيل الرواية العربية وتحقيق خصوصيتها وفرادتها، وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام تراث صوفي هائل هم ورثته، فحاولوا تطويعه لرؤاهم، فتمثلوا التجربة الصوفية في أعمالهم الإبداعية واغترفوا من ينابيعها، ليصبح بذلك البعد الصوفي وجهاً من وجوه الرواية الجديدة ومن مظاهر شعريتها ، منح الرواية مسحة إنسانية عميقة الدلالة تختلف في مكوناتها النصية عن الخطابات الأخرى وتتجاوز قوانين الخطاب المتداولة.
وفي تعريفه للتصوف قال محمد البوركي بأنه منهج، أو طريق، يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به، كما عبر عنه ابن عطاء الله السكندري، وهو كذلك علم تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الأخلاق وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية”، وعرَّفه الجنيد بأنه : “استعمال كلِّ خُلُقٍ سَنيّ، وتركُ كلِّ خُلق دَنيّ”، وعرَّفه الشاذلي قائلًا: “التصوف تدريبُ النَّفس على العبودية، وردِّها لأحكام الربوبية”، وقيل أيضًا في تعريف التصوف: “التصوف هو علم يعرف به كيفية السلوك إلى حضرة ملك الملوك، وتصفية البواطن من الرذائل، وتحليتها بأنواع الفضائل، وأوله علم، ووسطه عمل، وآخره موهبة”، إنه تجربة روحية ذوقية حدسية يكابدها المتصوف، والتراث الصوفي يقدم زادا وفيرا من المفاهيم والمعاني والأحوال والتصورات الإيمانية والفكرية المرتبطة بهذا المجال. وجدير بالذكر أن معظم رجالات الصوفية هم أدباء اتخذوا الشعر وسيلة للتعبير عن فلسفاتهم ورؤاهم المتفردة للوجود والكون، نذكر من هؤلاء الأعلام : محيي الدين بن عربي، السهروردي، الحلاج، الجنيد، ابن سبعين و غيرهم .
من هذا المنطلق، يضيف محمد البوركي، لجأ الروائيون في الحقبة الأخيرة إلى الاغتراف من هذا المنبع الثر، وحرصوا على تضمين أعمالهم نَفَساً صوفياً، وصبَغوا لغتهم و خطابَ نصوصهم بصبغة صوفية واضحة، فأبدعوا روايات على قدر كبير من النضج والفَرادَة؛ مما جعلها تتطلب قارئاً خاصاً يمتلك استعداداً ومؤهلاتٍ تتيح له فهمها و تأويلها.
إن للبعد الصوفي حضوراً أكيداً و ملموساً في عديدٍ من الروايات العربية المعاصرة، وعلى مستويات روائية شتّى( المعجم، اللغة، الشخصيات، الفضاء…) ، ويمكن التمثيل لمظاهر استلهام الروائيين لأقطاب التصوف في إنتاجاتهم بما يلي : جمال الغيطاني في “كتاب التجليات” بأجزائه الثلاثة، استوحى فيها شخصية ابن عربي في سلوكه وفكره. والكاتبة التركية «إيليف شافاق» في روايتها ” قواعد العشق الأربعون” التي استثمرت فيها سيرة جلال الدين الرومي، أحمد التوفيق في روايته “جارات أبي موسى” الذي يرجع إلى القرن الرابع عشر، وتحديداً إلى فترة الحكم المرينيّ ليروي عن تلك الفترة المضطربة في تاريخ المغرب، مازجاً التاريخ بالخيال الصوفيّ من خلال شخصية “أبي موسى” صاحب الكرامات. مصطفى لغتيري في روايته ” الأطلسي التائه ” التي استلهم سيرة أبي يعزى الهسكوري، الذي عرف باسم مولاي بوعزة أحد رجالات التصوف المغاربة، وكذلك فعل غير قليل من الأدباء كالطاهر وطار في ” الولي الصالح يرفع يديه بالدعاء “، والميلودي شغموم في ” شجرة الخلاطة “، وحمور زيادة في ” شوق الدرويش “، ومحمد حسن علوان في ” موت صغير ” و غيرهم.