“ألفيس”… الطيران نحو صخرة الأبدية

منبر العراق الحر :

يتحدث ألفيس مع مدير أعماله “الكولونيل توم باركر” عن ولعه في الطفولة بأحد أبطال سلسلة مارفل الذي طار نحو صخرة الأبدية.

وبالتزامن مع ذكراه الخامسة والأربعين بدأت صالات سينما ومنصات عرض فيلم عن سيرة ملك الروك ألفيس بريسلي (يناير 1935- أغسطس 1977).

المخرج باز لورمان صاحب “غاتسبي العظيم” و”مولان روج” بدا مولعًا بالاستعراض والشخصيات التاريخية واستعادة قطعة من زمن بعيد عنا نوعًا ما. وهنا يفعل ذلك بامتياز مستعيدًا سيرة أحد ملوك الاستعراض وحقبة الخمسينيات بكل جنونها وبهجتها.

بقرة حلوب

هل كان الشريط مخلصًا بدقة لسيرة بريسلي؟ الإجابة نعم ولا.. فمن ناحية قدم لنا محطاته الأساسية التي يمكن الإطلاع عليها في ويكيبيديا، منها ولادته في توبيلو بولاية مسيسبي ثم انتقاله إلى ممفيس حيث نشأ، واحتراف الغناء مع شركة “صن ريكوردز” وصولًا إلى تجنيده، وانتهاء بوفاته الغامضة المريبة.

لكن هناك دقائق كثيرة- ربما لا نعثر عليها- لأن الفيلم انشغل بدرجة كبيرة بعلاقته مع مدير أعماله “الكولونيل توم باركر” (توم هانكس في أداء محترم ومغاير جدًا) والتي استمرت لعقدين من الزمان.

أسند لورمان إلى “الكولونيل” التعليق السردي على الشريط، فنحن نرى كل شيء من وجهة نظره، وفي معرض الدفاع عن نفسه إزاء اتهامه بقتل ألفيس.

تصلح شخصية الكولونيل نفسه- وهو من أصول هولندية- لرواية، لأنه يحمل لقبًا زائفًا، ولا يملك جنسية أي بلد. مغامر غامض وطموح ومقامر وشره للمال وجد جوهرة تشع بملايين الدولارات فأخلص في استثمارها حتى آخر فلس. وآخر نفس.

تورط الكولونيل في القمار، والاحتيال، جعله عبدًا لشهوة المال، وهو ما يفتح أفقًا على كواليس صناعة الترفيه في أميركا (والعالم عمومًا) والاستغلال البشع للأيقونات الناجحة.

لا شك أنه جعل ألفيس بقرة حلوبًا يأخذ لنفسه نصف إيراداتها، لكنه أيضًا لم يكن الوحيد، فهناك شلة من الأصدقاء والأقارب عاشت في رفاهية وتبذير على حساب ألفيس، وأولهم والده نفسه.

تمتع كلا الرجلين- ألفيس والكولونيل- بالصلابة والعناد، الأول من أجل نجاح أسطوري يضمن له الخلود، والآخر من أجل المال، وهنا تلاقت الإرادتان.

لم يكن المال هو ما يهم ألفيس رغم فقره وحرصه على الارتقاء ماديًا بأهله وشراء كاديلاك زهرية لأمه، والدليل أنه كان مسرفًا حد السفه، وصُدم عندما أخبره والده بعد كل سنوات المجد والتألق أنهم على وشك الإفلاس.

في هذا السياق ثمة تفاصيل لم يتطرق إليها الشريط على طوله لقرابة 160 دقيقة، تتعلق بإرثه المادي، باستثناء الإشارة في سطور النهاية إلى خلافات قضائية نشأت بين باركر والورثة وانتهت بالتسوية.

ولكن إلى الآن مازالت أيقونة ألفيس وأغانيه تجلب ملايين الدولارات، ويُقال إن عدد زوار بيته (وقبره) “غريسلاند” أكثر من نصف مليون زائر، لينافس بذلك “البيت الأبيض” نفسه. ووضعته مجلة فوربس ضمن أصحاب الدخول الأعلى في العالم رغم وفاته مبكرًا عن اثنين وأربعين عامًا.

عقدة أوديب

الجانب الآخر في أسطورة ألفيس يتعلق بعقدة دفينة صاحبته نتيجة وفاة شقيقه التوأم “جيسي”، ما تولد عنه شعور غامض بالذنب، وارتباط عاطفي شديد بأمه التي كانت تقول له ـ على سبيل المواساة ـ ستجتمع فيك قوة رجلين. وعقب تجنيده وسفره إلى ألمانيا، سقطت الأم في فخ الكحول وتوفيت، لنرى في الشريط انهيار ألفيس حزنًا عليها.

وجد سلواه في قصة حب مع بريسيلا (أوليفيا ديجونغ)، حيث تزوجها وأنجب ابنته الوحيدة “ليز ماري” إلى جانب غراميات كثيرة عابرة، لم تزعج الزوجة قدر انزعاجها من كونه “شبحًا” ليس له حياة حقيقية إلا على خشبة المسرح وفي الحفلات وبين جمهوره، لذلك وقع الانفصال بعد نحو خمس سنوات.

يمكن بسهولة تحليل زيجة ألفيس وغرامياته في ضوء العقدة الأوديبية وعلاقته المعقدة بأمه.

ثورة شعبية

ثالث ملامح الشريط الذي يبدو مخلصًا لفكرة عدم الإخلاص لمسار واحد، يتمثل في الثورة الشعبية الموسيقية التي قادها ليصبح أحد رموز القرن العشرين.

عندما رثاه الرئيس الأميركي جيمي كارتر قائلًا “إن جزءًا من أميركا ضاع بموته”، كانت عبارة لطيفة لكن العكس هو الحقيقي، لأن موته الغامض كرس أسطورته وخلد تجربته في الثقافة الأميركية الشعبية والموسيقية. والدليل أنه إلى اليوم يتم استثمار صور ودمى له وتقام مسابقات لتقليده، وتباع أسطواناته.

هذا يفتح سؤالًا حول حقيقة تأثيره الفني وأصالة موهبته. انقطع ألفيس عن الحفلات قرابة سبع سنوات وانشغل بفكرة تدشين نفسه كممثل سينمائي، وتوفرت له الشهرة والمال، لكنه قدم حوالي سبعة أفلام عادية، ولم يصل إلى ما وصل إليه نجماه المفضلان جيمس دين ومارلون براندو، وهو ما قاله لزوجته في آخر لقاء جمعهما ـ بعد الانفصال ـ بأنه لم يقدم الفيلم الكلاسيكي الذي كان يحلم به.

في مجال موهبته الحقيقية أي الموسيقى، لا يخفت الجدل ما بين الإشادة بتأثيره العظيم، وبين ما يعتبره البعض سطوًا على موسيقى الزنوج كالبلوز وموسيقى الإنجيل، بحكم تفتح وعيه كصبي جنوبي على هذه الألوان، وهناك عدة أغاني حققت شهرة كبيرة لم تكن له في الأصل.

يؤكد الفيلم على بدايته وسط ذوي البشرة السمراء في الجنوب (زمن الفصل العنصري) وكيف اندمج مع رقصهم الحيوي جدًا وموسيقاهم التي تلبسته وإيمانه بما قاله له قس أسود آنذاك: “حين تكون الأمور أخطر من أن تقال، غنِ”. أي أنه قاد ثورة شعبية فنية موازية لثورة دكتور كينغ ضد التمييز العنصري، ومزج على نحو متكامل موسيقى البلوز مع الكانتري المعروف لدى البيض.

فهو أيقونة إجماع غيرت وجه الموسيقى والثقافة الشعبية والمزاج الأمريكي عامة، وهذا سر الهوس به إلى اليوم.

ولا ينفصل أداؤه الموسيقي عن حضوره الجسدي سواء طريقة تسريحة شعره وإطالة سالفيه، وتلك البدل المبهجة اللامعة التي توحي ببدل لاعبي السيرك ومصارعي الثيران.

الأهم من ذلك حيويته الدافقة وحركاته الراقصة وطريقة تحريك رجليه كالممسوس بالنغم. وهي حركات عُدت ـ آنذاك ـ مبتذلة وتهدد “أخلاق المجتمع” وكاد يتعرض بسببها للسجن. لكن أسلوبه في الغناء لم يعتمد فقط على صوته وإنما على جسده بالكامل.

يبدو ذلك تقليديًا الآن، وهناك موضات وتقاليع تفوقه بمراحل في الحركة والإيحاءات الحسية، لكن هذا كله ما كان ليحدث لولا ظهوره على الساحة وبلغت التجربة أوجها ببث أول حفل غنائي عبر الأقمار الاصطناعية شاهده أكثر من مليار شخص في أربعين دولة، متفوقًا على بث الهبوط على سطح القمر.

وقدم الممثل أوستن باتلر أداء متقنًا لشخصية بريسلي بكل حيويتها ورقصها وأسلوب مشيه ولفتاته واحتضانه للجيتار، مع الاستعانة ب “ريمكس” لصوت بريسلي نفسه، والأهم من ذلك مجموعة كبيرة من أشهر أغانيه.

وهذه أكثر نقطة قوة تميز الشريط، أنه أعاد تقديم أشهر أغاني ملك الروك في توليفة استعراضية مدهشة.

سقوط قبل الأوان

لوّن لورمان شريطه بين مسارات عدة، ولم يلتزم الخطية التقليدية بحذافيرها، ومزج ما بين مشاهد آنية واستدعاءات، ولقطات توثيقية حية، وفوتوغرافيا، ورسوم متحركة.

بالتوازي مع الإيقاع الصاخب للموسيقى جاء المونتاج سريعًا ولاهثًا كأنه يراد للفيلم أن يكون مثل أغنية روك حارة ودافقة تحية لألفيس.

لكنّ السؤال اللغز يتعلق دائمًا وأبدًا بحيثيات الموت، غير المصدق لدى البعض حتى الآن، كيف لشاب مفعم بالحيوية والقوة أن يسقط فجأة هكذا؟

ألمح الفيلم إلى مسؤولية الكولونيل مصاص الدماء الذي طارده بالحفلات والعقود حتى قتله من العمل والإجهاد أو على حد تعبير ألفيس نفسه “أنا عالق في فخ لا أستطيع الخروج منه”، ويؤكد أرشيفه هذا الدأب للغناء وإقامة الحفلات والأفلام والدعاية والبرامج والاستعراضات رغم قصر عمره. وهو اتهام حاول الكولونيل التنصل منه بزعم أنه من صنع منه أيقونة العصر.

إلى جانب الإشارة إلى تعاطيه العقاقير (أو المواد المخدرة) كي تبقيه دافقًا وحيويًا على مدار الساعة وتسببت في إصابته بأزمة قلبية قضت عليه.

كما لا يمكن إغفال صراعاته النفسية، مع تقدمه في العمر وبدانته، وطلاقه، وحياته البوهيمية، وشعوره أنه مستنزف تجاريًا بما لا يسمح له بتطوير تجربته الغنائية كما يحلو له، ولا أن يقدم جولات خارج أميركا، وهي الفكرة التي حاربها الكولونيل.

كان ألفيس ضحية قصته الذاتية عن ذلك البطل الأسطوري الذي حلق نحو صخرية الأبدية، وكان نهمًا لبلوغ الخلود بأي ثمن، وقتله هذا النهم الذي لم يتحمله الجسد.

عبر الفيلم عن ذلك بقصة الطائر الذي لا يملك ساقين يحط بهما على أي شيء، فيقضي كل حياته يطير في الهواء، وحين يتعب يبسط جناحيه وينام فيما الريح تحمله. وإن حط على الأرض، ولو لمرة واحدة، يموت.

شريف صالح —-النهار العربي

اترك رد