منبر العراق الحر :….تمهيد
لم تكن أزمة ما بعد 2014 في العراق انهيارًا عسكريًا فحسب، بل اختبارًا لمفهوم الدولة والعقل السياسي في الشرق الاوسط .
ومع تمدّد الفوضى وغياب البوصلة في حوكمة المركز ، وجد الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) نفسه أمام معادلة بقاءٍ جديدة تتجاوز منطق السلاح إلى منطق الفكرة.
فالمعركة لم تكن ضدّ خصمٍ مسلّح بل ضدّ نموذجٍ يعيد تعريف الشرعية ذاتها. من هنا بدأ يتشكّل ما يمكن تسميته بـ“الأمن المنتج للمعنى” — أمنٌ لا يكتفي بالحراسة، بل يصوغ سرديته ودلالته.
في هذه اللحظة بدأ التحوّل الجيو–أمني، حيث تداخلت الجغرافيا بالقرار، والميدان بالرمز، والعسكرية بالفكر.
غدا الأمن، في فلسفة الحزب، وعيًا بالوجود قبل أن يكون حراسةً له.
⸻
الجغرافيا كوعي عملياتي
أثناء التمدّد الداعشي، تحوّل الميدان إلى مساحة تعيد تعريف مركز القرار. وسّعت العمليات وفق هندسة انتشارٍ ديناميكية جعلت خطوط التماس مراكز قرارٍ سياسية. فكل محورٍ في نينوى أو مخمور أو زمار مثّل نقطة اتصالٍ بين الجغرافيا والمصالح الدولية.
هكذا وُلدت “الجغرافيا التشغيلية” كأداة نفوذٍ جديدة: فالموقع صار لغة، والخريطة وثيقة تفاهم مع العالم.
في فلسفة البارتي، الردع وقائي لا انفعالي؛ تُدار المعركة بوعيٍ يسبق الخطر ويحاصر الفوضى بالمكان لا بالنيران.
حين تُدار الأرض كفكرٍ استراتيجي، تتحول الجغرافيا من عبءٍ حدودي إلى طاقة نفوذٍ متجددة.
سؤال بلاغي: أليس ما أنجزه البارتي دليلًا على أن ميادين الأمس يمكن أن تتحول إلى خرائط نفوذٍ تفاوضي تصوغ الحدود كجسور تواصل لا كجدران فصل؟
⸻
البيشمركة كذاكرة سيادية لا كقوة مسلّحة
منذ 2014، أعاد البارتي صياغة العقيدة الأمنية للبيشمركة على أساس أن القوة التي لا تنتج شرعية تتحوّل إلى فائض تهديد. فالمقاتل لم يعد فاعلًا ميدانيًا فقط، بل حاملًا لمشروعٍ أمنيٍّ يربط الميدان بالعقل السياسي.
تجلّى ذلك في منظومة “الأمن المندمج” التي دمجت القرار العسكري بالاستخباري، وربطت المعلومة بالتحالف الدولي كامتدادٍ للعقل الإقليمي لا كوصايةٍ خارجية.
بهذا التحول، انتقل الإقليم من “الردّ المؤقت” إلى “الأمن المنتج”، حيث تصبح الحرب مرحلة بناء لا استنزاف.
حين تتحول المؤسّسة من أداة سيطرة إلى وسيطٍ بين القوة والشرعية، يغدو الأمن خطابًا سياسيًا لا نظامًا دفاعيًا فقط.
سؤال استشرافي: ألا تُثبت تجربة البيشمركة، كما أرساها البارتي، أن القوة حين تمتلك الوعي والشرعية يمكن أن تتحول إلى ذاكرةٍ إقليمية يُحتذى بها في صناعة الاستقرار؟
⸻
الدبلوماسية الامنية
بعد خمود الجبهات، واجه البارتي اختبارًا أعقد: تحويل النصر العسكري إلى هندسةٍ سياسية قادرة على البقاء. مارس الحزب “دبلوماسية أمنية مركّبة” وظّفت رأس المال الميداني لبناء توازناتٍ بين بغداد وواشنطن، أنقرة وطهران، التحالف والداخل العراقي.
حوّل موقع الإقليم إلى منطقة وساطةٍ استراتيجية لا تماس، واستبدل “التحالف” بـ“التقاطع المنضبط”، حيث يُدار الخلاف كمساحة تأثير لا كمأزقٍ سياسي.
أصبح الهدوء السياسي شكلاً من أشكال الردع الدبلوماسي؛ فالقوة التي تدرك متى تصمت هي التي تصوغ شكل النظام المقبل.
سؤال قيمي : أليس البارتي اليوم مثالًا على أن توازن الشرق الاوسط يمكن أن يُكتب بلغة الهدوء والعقل، لا بلغة الصراع والضجيج؟
⸻
خاتمة استشرافية
أعادت تجربة البارتي بعد 2014 في العراق تعريف الأمن كمنظومة إنتاجٍ مستدامة للمعنى السياسي. من الجبل كمختبرٍ للموقع، إلى الميدان كمختبرٍ للشرعية، ومن الحرب كضرورةٍ وجودية إلى الدبلوماسية كصناعةٍ للنفوذ، تشكّل الإقليم بوصفه نموذجًا لـ“العقل الجيو–أمني” الذي يتقاطع فيه العسكري بالاقتصادي، والميداني بالرمزي، والوطني بالإقليمي.
في هذا النموذج، لا تُقاس القوة بما تُسقطه من أعداء، بل بما تُبقيه من استقرار.
ربما كان درس البارتي الأعمق أن النصر الحقيقي هو أن تتحول الجغرافيا من ساحة اشتباك إلى مساحة تفكير.
سؤال ختامي: ألا يبرهن مسار كردستان، أن الأمن في الشرق الأوسط يمكن أن يُبنى بفنّ إدارة الزمن لا بأدوات الحرب؟
منبر العراق الحر منبر العراق الحر