منبر العراق الحر :
هنالك خيط رفيع، لكنه جوهري، يفصل بين المعرفة والوعي، كما يفصل بين القراءة والفهم… , وبين من يرى الأشياء بعينيه ومن يراها بعيون الآخرين ؛ فالمعرفةُ ليست سوى المرحلة السلبية للعقل، إذ يكتفي فيها الإنسان بجمع المعلومات وتكديسها كما تُكدّس البضائع في المستودعات، بينما الوعي هو المرحلة الإيجابية، التي يعيد فيها العقل تشكيل تلك المعلومات ليصوغ منها رؤى جديدة، واستنتاجات مبتكرة، ومفاهيم تُضيء العتمة بدلاً من أن تضيف إليها ظلالاً أخرى… ؛ اذ يحوّل الكمّ إلى نوع، والمعطى إلى معنى.
إنّ العقل الواعي لا يكتفي بأن يعرف، بل يسأل عمّا يعرف، يشكّ، يُمحّص، يُعيد النظر، ويخلق من المعلوم مجهولاً جديداً يستحق البحث والتأمل… ؛ بينما العقل المألوف يعيش في دائرة التلقين ، يغذّيه النصّ ولا يغذّي نفسه، يقدّس المعلومة ولا يفكّر فيها، حتى يتحوّل مع الوقت إلى آلة تردّد ما سُطّر لها، لا ما ولّدته تجربتها الخاصة.
نعم , بين المعرفة والوعي هوةٌ شاسعة، كتلك التي تفصل بين الظلّ والحقيقة، وبين الصورة والجوهر… ؛ فالمعرفة جمعٌ للوقائع، والوعي تفجيرٌ للدلالات… ؛ وكما ميّز “إديسون” بين وظيفتي العقل : سلبيةٌ تكتفي بحشو الذهن بالمعلومات، وإيجابيةٌ تعيد تشكيلها واستنباط رؤى جديدة منها، فكذلك الفرق بين قارئٍ يكتفي بترديد المقولات و يسبح على سطح النص ، وقارئٍ يغوص في أعماق المعاني ليستخرج اللآلئ … ؛ فالمعرفةُ جمعٌ للوقائع، وحشوٌ للذاكرة، واستظهارٌ للنصوص؛ أما الوعيُ فهو تفجيرٌ للمعاني، واستنطاقٌ للمكنون، وانزياحٌ بالمعرفة من حيز التلقي إلى فضاء الإبداع.
فالعبرة ليست في كثرة ما يُقرأ، بل في كيفية التفكير بما قُرئ… ؛ فكم من قارئ ملأ رأسه كتباً، لكنه لم يملأ عقله فهماً، وكم من متعلم بات أجهل ممن لم يتعلم، لأنه لم يستطع أن يحوّل ما تعلمه إلى بصيرة نافذة أو رؤية نقدية حرة… ؛ ان هؤلاء السطحيين الذين يغترّون بشهاداتهم ومكتباتهم الضخمة يشبهون الحمار الذي يحمل أسفاراً؛ عبءُ المعرفة فوق ظهورهم لا في عقولهم، فلا تعجب إن رأيت بعضهم يركع أمام دجّال بعمامة، أو يقبّل يد شيخ عشيرة، أو يمجّد زعيماً فاسداً، أو يقدّس طقوساً بدائية، أو يتبنّى خرافاتٍ تافهة باسم الدين أو العرف أو العادات والتقاليد .
نعم , كثير من الناس تغرقهم القراءة في بحر الجهل، لأنهم لا يجيدون السباحة في أعماق المعنى… ؛ فتراهم يكدّسون الكتب كما يكدّس البخيل الذهب، دون أن يمسّهم من نوره شيء… ؛ والنتيجة: عقول مشلولة بثقل المعرفة، لا تنمو ولا تُنبت فكراً، تماماً كما تُثقل التربة إذا غُمرت بالماء حتى تختنق جذورها… ؛ وهكذا يصبح بعض الأكاديميين والعلماء وأصحاب الشهادات العليا أسرى لما تعلموه، لا أسياداً عليه، يتشبثون بالموروث الجامد، ويخشون من الريح التي قد تزعزع معابدهم الفكرية ومعتقداتهم الثقافية والدينية .
لا عجب إذن أن ترى بروفيسوراً في الطب يتصرف كما يتصرف الجهلة او البسطاء … ؛ أو أستاذاً جامعياً يتردد على ساحر وعراف ، أو مثقفاً يعبد زعيماً سياسيّاً كما كان البدائيّ يعبد الحجر والصنم … ؛ لأنّ المعرفة لم تلامس فيهم جذر الوعي، ولم توقظ فيهم الحسّ النقدي الذي يميّز الإنسان عن القطيع… ؛ فالعقل إن لم يتحرّر من الخوف والطاعة العمياء، يبقى في النهاية عبداً، وإن امتلأت جدرانه بشهادات واطروحات … ؛ فكم من قارئٍ غزير الاطلاع لا تزيده كثرةُ قراءاته إلا جموداً وتعصُّباً، وتقوقعاً في أبراجٍ من الأوهام، حتى ليصير كالتمثال الجامد الذي لا يبصر ولا يسمع ولا يعي ما يدور حوله… ؛ وأولئك السطحيين الذين يحملون الشهادات العليا بلا وعيٍ حقيقي، أشبه بحمارٍ يحمل على ظهره مجلداتٍ من الأسفار، ثقلها عليه دون أن ينهل من معينها كما اسلفنا … ؛فلا غرابة أن ترى القارئ السطحيّ والمتعلّم الشكليّ جالساً بين يدي الدهماء والرموز العشائرية ، كتلميذٍ صغيرٍ أمام معلمه ؛ إنهم أشباهُ المتعلمين، يملكون قشرة المعرفة ولكنهم يفتقرون إلى لبِّ الوعي…. !
نعم , إنَّ العبرةَ ليست في ضخامة المكتبة التي نحملها في أذهاننا، بل في القدرة على تحويل حروفها إلى طاقةٍ فكريةٍ قادرة على اختراق الظواهر والوصول إلى النواميس الكامنة… ؛ فكم من قارئٍ التهم آلاف الكتب، فما ازداد إلا تصلُّباً في أفكاره، وانغلاقاً في رؤيته، حتى تحوّل إلى كائنٍ أشبه بتمثالٍ من الملح، يقف أمام بحر الأفكار الجارية فلا يرى إلا انعكاسَ صورته الجامدة… .
إنَّ الوعي ليس تراكماً للمعلومات كما اسلفنا ، بل تحوّلاً في طريقة النظر إليها… ؛ إنه القدرة على مساءلة الموروث، ونقد المسلّمات، وتفكيك الأكاذيب التي تربّت عليها العقول، سواء أكانت دينية أم سياسية أم اجتماعية أم ثقافية … ؛ فالوعي هو أن تقرأ العالم بعينك لا بعيون الآخرين فحسب ، وأن تجرؤ على التفكير خارج النص، وأن تتعامل مع المعرفة لا بوصفها صنماً جديداً بل أداة للتحرّر من الأصنام كلها.
لذلك ترى كثيراً من الأكاديميين والمتعلمين لا يختلفون في سلوكهم وتفكيرهم عن العامة، لأنهم تعلموا كيف يدرسون لا كيف يفكرون… ؛ فالقراءة وحدها لا تُحرّر، بل قد تُكبّل إن لم تصحبها روح النقد والتحليل، والبحث في ما وراء السطور… ؛ فالمعرفة التي لا تُثمر وعياً، كالشجرة التي تنبت في أرض مالحة: تزهر أوراقاً ولكن لا تثمر حياة.
الوعي هو أن تحطم القوالب الفكرية الجاهزة، وأن تتحرّر من الإملاءات والبرمجيات التي صاغها المجتمع والسلطة والدين والإعلام، لتبصر ذاتك في مرآة الحقيقة لا في مرآة القطيع….؛ الوعي هو أن تملك فكراً حراً لا عقلاً مسلوباً، وأن تصغي إلى صوتك الداخلي لا إلى ضجيج الجموع.
فحين يفكر الإنسان لا حين يحفظ، وحين يشكّ لا حين يسلّم، يبدأ الوعي، وتبدأ معه رحلة الإنسان نحو ذاته… ؛ نحو الحرية التي لا تُمنح، بل تُولد من رحم الشكّ والفهم والنور.
إنّ الوعي لا يُقاس بعدد الكتب المقروءة، بل بعدد المسلّمات التي تجرّأت على الشك فيها… ؛ فالقراءة التي لا تصنع سؤالاً ليست إلا ترفاً فكرياً… ؛ والمعرفة التي لا تغيّر نظرتك إلى نفسك والعالم ليست إلا قيداً آخر يُلمّع سلاسلك الذهبية… ؛ فكم من قارئ يظن نفسه حرّاً وهو مكبّل بخرافات مقدّسة، وكم من دارس يظن نفسه عالماً وهو يكرر ما حفظه من دون أن يختبره في مختبر الوعي والشكّ والتجربة.
الوعي هو أن تملك شجاعة التمرّد على العادة، والتفكير ضد التيار، أن تكفر بكل الأصنام التي تستهلك روحك: صنم المذهب والدين ، وصنم الحزب والايدلوجية ، وصنم الزعيم والمقدس، وصنم الجماعة والقطيع ، وصنم الإعلام الذي يبرمج عقول الملايين كما تُبرمج الآلات… ؛ الوعي هو أن تتجاوز المعرفة من كونها “ما تعرفه” إلى كونها “كيف تعرف ولماذا تعرف”.
ولذلك، فليست القراءة غاية، بل وسيلة للتحرر من أسر الأفكار الجاهزة… ؛ وليست المعرفة امتلاكاً للمعلومة، بل تحرّراً من وهم امتلاك الحقيقة… ؛ لأنّ الحقيقة، كما الوعي، ليست شيئاً يُعثر عليه، بل شيئاً يُخلق في كل لحظة جديدة من التفكير والتساؤل والانفتاح.
نعم , حين ينهض العقل من نوم المعرفة، يدرك أنّ الوعي ليس ترفاً فكرياً، بل خلاصاً إنسانياً… ؛ فالمعرفة تملأ الرأس، أمّا الوعي فيُنبت جناحين للعقل، يطير بهما خارج أسوار التلقين إلى فضاء الحرية… ؛ هناك فقط… يبدأ الإنسان رحلته نحو ذاته، نحو نورٍ لا يراه إلا من كفّ عن عبادة الظلال والظلمات .
إن المعرفة وحدها – والقراءة المجرّدة – لا تحرّر الإنسان من أغلال المجتمع، ولا من أصر الخرافة، ولا من حبائل السياسة ومكائدها، ولا من الأيديولوجيات الطوباوية والظلامية… ؛ فالقراءة وحدها لا تصنع وعياً، كما أن حفظ النصوص لا يخلق فهماً… ؛ وكما أن جمع الحجارة لا يبني صرحاً
نعم , الوعي الحقيقي هو ثمرة إعادة التفكير في كلّ ما قُرئ، وغربلة كلّ ما عُرِف، والتحرّر من كلّ البرمجيات الفكرية المتجمّدة، والرؤى الضيقة، والانطلاق نحو آفاق العلم الرحبة، والبحث النزيه، والنقد الفلسفي الحرّ… ؛ وهو يعني، في جوهره، التحرّر من كلّ الأصنام والرموز التي تستنزف الروح الإنسانية وتكرّس الجهل والتخلّف… ؛ الوعي يعني أن تمتلك فكراً حرّاً، لا عقلاً مسلوب الإرادة، ولا فكراً مخدّراً، ولا روحاً خاضعةً لمنطق القوة أو القطيع أو الإعلام الزائف… ؛ فالوعي، في النهاية، هو الخروج من ظلمة القطيع إلى نور العقل، ومن سجن الموروث إلى رحابة الفكر النقدي، ومن عبادة الأشخاص إلى تقديس الحقيقة… ؛ وانزياحٌ من ظُلمةِ التلقين إلى فضاءات النقد الفلسفي والبحث العلمي الحر.
فالوعيُ، في محصّلته النهائية، هو الخروجُ من سجن الذات الجمعية الضيقة إلى رحابة الإنسانية والكونية ، ومن ظلمة اليقين الدوغمائي إلى نور الشكِّ الخلاق… ؛ إنه الرحلةُ الأصعب التي يتحول فيها الإنسان من كائنٍ يملك المعرفة إلى كائنٍ تملؤه الحكمة.
منبر العراق الحر منبر العراق الحر