ماهيّة الإرهاب تحت المجهر …. الكاتب الإعلامي : الدكتور أنور ساطع أصفري .

منبر العراق الحر :

في العلاقات الدولية المعاصرة ، قلما أُستعملت كلمة أو أُسيء إستعمالها ، أو أُستعملت على نحوٍ تعسفي أكثر من كلمة الإرهاب .
فمنذ أوائل هذا القرن وكلمة الإرهاب ومشتقاتها قد غزت كافة فروع العلوم الاجتماعية ، المؤلفون في ميادين هذه العلوم قد إنكبّوا على دراسة هذا الموضوع أكثر من أية ظاهرة إجتماعية سياسية أخرى في عصرنا الذي نحياه .
وبالرغم من هذا الاستعمال الشائع لكلمة الإرهاب ، إلاّ أن وضع تعريفٍ له يُعدّ مشكلةً في الوقت الحديث ، إذ أنه من العسير التحديد المجرّد لللإرهاب ، دون إدخال عناصر خارجية عنه تتمثّل في الآراء المختلفة حول شرعية أو عدم شرعية التنظيمات ونشاطاتها ، ممّا أدّى إلى صعوبة التوصّل إلى اتفاقيات أو معاهدات دولية لإختلاف مصالح الدول .
كذلك إختلاط صور العنف السياسي المختلفة بالإرهاب بحيث أصبح الفاصل غير واضح بينه وبين صور الجرائم السياسية والجرائم المنظّمة ودكتاتورية الدولة . بل تجاوز الأمر إلى إختلاط مفهوم الإرهاب مع بعض صور الحرب أو الجرائم العادية .
هذه المشكلة أدّت إلى إستبعاد محاولة التعريف بالإرهاب وتحديد ما هيّته على إعتبار أنه لا جدوى من ذلك ، أو تعريفه باعتبار الأفعال المكونة من قتل واغتيال وتخريب وتدمير وغيرها . وهو ما يطلق عليه التعريف المادي للإرهاب .
وواقع الأمر ، إن إستبعاد وضع تعريف الإ{هاب يُؤدّي بنا في كثيرٍ من الأحيان إلى الخلط بين صور العنف ممّا قد يحيد حديثنا أو بحثنا عن وجهته ، كما أن وضع تعريفٍ ما من شأنه أن يُحدد أُطر الاستراتيجية الخاصّة بالتعامل معه ومواجهته بأُسس علمية سليمة ونقيّة .
أمّا الاقتصار على تعريف الإرهاب بتعداد صور الأفعال المادّية المكونة له ، فيه إهدارٌ للباعث السياسي لكثيرٍ من هذه الأفعال ، كما أنّه من جهةٍ أخرى يصعب حصر هذه الصور والألإعال المادية المكونة لجريمة الإرهاب . وبالتالي يؤدّي بنا إلى الخلط بينها وبين صور الأفعال المادية المكونة للجرائم العادية .
وطبقاً لهذه المعطيات علينا أن نحاول وضع تعريف للإرهاب لأغراض وضعه تحت المجهر ، ونُفرّق بينه وبين الصور الأخرى التي قد تتشابه معه .
الإرهاب كلمةٌ حديثة في اللغة العربية ، وهي كلمةٌ مشتقّة ، أقرّها المجمع اللغوي ، وجذرها ” رهب ” بمعى خاف ، كلمة إرهاب هي مصدر الفعل ” أرهب ” و ” أرهبه ” بمعنى خوّفه ، ولقد وردت كلمة الرهبة في القرآن الكريم بعدةِ معانٍ ، منها الخشية ، وتقوى الله ، مثل قوله تعالى ” إنهم يُسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً ” ، كما وردت بمعنى الخوف والرعب ، كقوله تعالى ” واضمم إليك جناحك من الرهب ” ، كما وردت بمعنى الردع المعروف في موازين القوى العسكرية والأمّنيّة في أيامنا هذه ، في قوله تعالى ” وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ” .
والإرهابيون في ” المعجم الوسيط ” وصفٌ يُطلق على الذين يسلكون سبيل العنف والإ{هاب لتحقيقِ أهدافهم السياسية ، والإرهابي في ” المنجد ” من يلجأ للإرهابلإقامة سلطة ، والإ{هاب في ” الرائد ” هو رعبٌ تحدثه أعمال عنفٍ كالقتل وإلقاء المتفجرات أو الشغب والتخريب . والخلاصة في تعريف الإرهاب إلغوياً إنه يعني الخوف والفزع والرعب ، وبإقرار مجمع اللغة العربية لكلمة الإرهاب كمرادف لهذه المعاني ، اكتسب المعنى اللغوي معنى اصطلاحيّاً أيضاً .
أمّا الإرهاب إصطلاحاً فنعتقد أن الأخذ بالمعيار الموضوعي لتحديده أفضل من الإطار المادي لتعريفه ، وفي هذه الحال عمد الفقه إلى إسلوبين ،ى الاسلوب الأول يعتمد وضع عناصر متعددة للظاهرة ، تُشكّل في النهاية تعريفاً لها ، بحيث أن الإرهاب يُعرّف بعناصره المكونة له دون وضع تحديد معيّن للكلمات المكوّنة للتعريف .
أمّا الاسلوب الثاني ، هو وضع تعريف جامع مانع لمفهوم الارهاب يجعله ذا صفةٍ مُجرّدة وموضوعية ، ملمّاً بالجوانب المختلفة للظاهرة ، دون إغفال أي منها ، وبالرغم من أن أحد الباحثين قد أورد حوالي 200 تعريف له ، من وضع علماء متنوعين في مختلف فروع العلوم الاجتماعية ، إلاّ أن الاتفاق على تعريفٍ واحد لم يزل حلماً يُراود أغلب الباحثين .
لذا يظلّ المحور الرئيسي والموضوعي الذي يأخذ به واضع التعريف ، هو المعمول عليه عند تحديد مفهوم الإرهاب وماهيّته .
وشخصياً أقول عن الإرهاب ، أنه ” استخدام القوة على نحوٍ منظّم ومتّصل وغير مشروع ، بقصد تحقيق أهدافٍ ذات صلة بالطبيعة السياسية تؤدّي إلى إخلالٍ بمفهوم النظام العام في الدولة ، من ناحية الأمن العام ، والصحة العامة ، والاستقرار والسكينة العامة .
وعندما نقول أن الارهاب هو استخدام القوة على نحوٍ منظم ومتصل وغير مشروع ، نعني بذلك كافة أشكال القوة بمعنييها الواسعين المادي والمعنوي ، وهما يشملان ضمناً عنصر التهديد بهما ، فالمعنى المعنوي يهدف إلى إيقاع الأثر النفسي المؤدّي إلى تحقيق الغاية من الإرهاب ، ومن أهم مظاهر القوة استخدام العنف ، فهو احدى وسائلها بجانب وسائل أخرى ، إلاّ أنه أظهرها جميعاً وأشدها تأثيراً .
هناك كثيرون يخلطون بين العنف والإرهاب باعتبارهما شيئاً واحداً ، رغم أن واقع الأمر يدلنا على أن العنف أحد أهم مظاهر القوة المكونة لأفعال الإرهاب .
كما تشير كلمة عنيف ، إلى كل سلوك يتضمن معاني الشدة والقسوة ، بينما في اللغة الانكليزية يشير الأصل اللاتيني للكلمة إلى استخدام القوة لإلحاق الأذى بالآخرين ، فهو سلوكٌ مادي فقط .
ولا يقتصر استخدام القوة بصفة عامة للقول بوجود الإرهاب ، بل يجب أن يكون هذا الاستخدام على نحو منظم ومتصل وغير مشروع ، وهي أمور هامة للتفرقة بين استخدام القوة المشروع ، والاستخدام غير المشروع لها .
قد يكون ، أقول قد يكون استخدام القوة تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ، إلاّ أن عنصري التنظيم والاتصال لا أتصوّر أن يتمّا إلاّ من خلالِ منظّمة أو تنظيم محلي أو اقليمي أو دولي .
والاستخدام المنظّم للقوّة غير المشروعة تجعل الإرهاب يفترق عن الحوادث الفردية ذات التأثير المحدود ، فالقوة مهما كانت نتائج استخدامها وآثارها على المستوى الوطني أو الدولي ، لا تنتج أثراً ، في إحداث حالة التهديد والرعب إلاّ إذا كانت جزءاً من مجموعة منظمة من النشاطات الإرهابية ، والمقصود هنا بكلمة منظمة أن يكون النشاط متصلاً من خلال عمليات أو مشروعات إرهابية تؤدّي إلى حالة الرعب ، مثلاً : إغتيال الرئيس كيندي لم يكن حالة إرهابية ، بينما إغتيال الرئيس السادات كان عملاً إرهابياً ، لأنّه شكل سلسلة منظمة من العمليات التي أعقبت حادث الإغتيال ، وأدت إلى حالة من عدم الاستقرار لفترةٍ زمنية ليست بقصيرة .
لذا فإن جوهر الإرهاب حديثاً ، أنه لا يتصوّر حدوثه إلاّ مع توفّر تنظيم قادر على القيام بالعمليات الإرهابية التي أصبحت تحتاج إلى تخطيط وتمويل وتسليح وأفراد أكفّاء ذوي خبرات ومهارات عالية سواء على مستوى الإعداد أو التنفيذ .
واستخدام القوة يجب أن يكون على نحو متصل ، فلا يكفي أن يكون منظماً فقط ، أي ذا هوية تحكمها أصول الإدارة ، وإنما يجب أن يكون النشاط مستمراً أو متصلاً لفترةٍ زمنية تكفي لإحداث التأثير النفسي المطلوب على الدولة والمواطن .
لذا فالعمليات الإجرامية التي يقترفها بعض الأشخاص قد لا تُعد عمليات إرهابية إن لم تتخذ خطاً منظماً ومتصلاً بغية إحداث التأثير المعني ، هو تهديد النظام العام في الدولة .
والاتصال المقصود هو التعاقب الزمني لسلسلة العمليات المستخدة فيها على نحوٍ يبقي الساحة مشغولة فكرياً ونفسياً ومادياً بمتابعة هذه العمليات أو التحفيز لها ، ولا يشترط هنا أن تتم العمليات بصورة يومية ، بل يكفي أن تتم على فترات زمنية تحدث التأثير المطلوب ، والمُخطط له .
وفي نهاية المطاف ، يجب أن يكون استخدام القوة المنظم والمتصل على نحو غير مشروع ، والمقصود بالمشروعية هنا ، هو الشرعية الدستورية للنظام القانوني داخل الدولة . فاستخدام القوة ينبغي أن يُشكل فعلاً مخالفاً للقانون بمعناه الواسع والشامل بحيث يدخله في نطاق التجريم .
وبالقياس على ذلك نحن نستبعد من نطاق الإرهاب ، صور إستخدام القوة المشروعة من قبل الدولة ، وهو ما يحلو للبعض أن يُطلقوا عليه ” عنف الدولة ” أو ” العنف الرسمي ” أو ” إرهاب الدولة ” ، وما يُمثله وفق رؤيتهم من عمليات الإعتقال السياسي ,غستخدام قوات الأمن أو الجيش للقضاء على أعمال العنف أو الشغب أو الفوضى الموجّهة لنظام الحكم في الدولة وبنيته التحتية ، أو آلياتها الدستورية ، فهذه الأفعال لا يمكن ولا بأي شكلٍ من الأشكال أن نصفها بالإرهابية ، على الأقل وإعتماداً على الدور الأساسي الدستوري الذي يعني حماية كيانها القانوني الإجتماعي سواء على مستوى مؤسساتها الدستورية أو على مستوى توفير الأمن والحماية لأفرادها ، ولا يمكن أن نتصور تقاعس الدولة عن هكذا دور وإلاّ كان ذلك من معاول وآليات هدم كيانها الدستوري والسيادي .
فتوفّر السلاح بيدٍ لا تمتّ إلى سلطات الأمن أو الجيش أمرٌ مرفوض ، وإلاّ لتحوّلت البلاد في كل مكان إلى فوضى عارمة وإلى شغبٍ وتخريبٍ لا ينتهي .
ومن جهة أخرى ، وصف تلك الأعمال بالإرهابية من شأنه أن يُشجّع طامعي السلطة والساعين إليها في النظم الديمقراطية الغربية أو الاجتماعية الحديثة على إقتراف طريق القوة من أجلِ تغيير سدة الحكم ، وهو أمر يتناقض مع أسس الديمقراطية ، فالديمقراطية تبقى وسيلة من وسائل الشعب لتبادل تسيير الأمور في الدولة على نحوٍ سلمي غير مقترن بالعنف أو إستخدام القوة .
وجميعنا يتذكّر حينما رفض الرئيس الأمريكي ترامب الخروج من البيض الأبيض وتسليم خلفه بايدن ، وكيف أنه حرّض أنصاره لإحتلال مجلس النواب ، حيث تعرّضت واشنطن لفوضى عارمة إستمرت أسابيع ، حيث تدخّل الجيش الفيدرالي وأنهى الأمور وأعادها إلى جادة الصواب .
كما أن عدم إضفاء المشروعية على إستعمال القوة كفعل مكون للإرهاب من شأنه أيضاً أن يُخرج طائفة أعمال المقاومة المسلحة التي تقودها حركات التحرير من أجل نيل استقلال بلادها من المحتلين ، نظراً لإقرار ميثاق الأمم المتحدة مشروعية ذلك ، وما دام سلوك المقاومة المسلحة تحكمه اتفاقيات جنيف والبروتوكلات المكملة لها لعام 1977 .
فالنضال المسلح ضد الاحتلال أو السيطرة الأمنية أو العنصرية باعتباره مظهراً للحق الثابت في تقرير المصير هو نضال مشروع من وجهة نظر القانون الدولي ، وهذا ينطبق على شعبنا الفلسطيني الصامد والأبي ، ما دام أعضاء حركة التحرير الوطني يخضعون أنفسهم للقانون الإنساني الدولي ، كما هو مكرس في قوانين جنيف لعامي 1949 ، 1977 .
بكلِ تأكيد أن الإرهاب يهدف إلى تحقيق أهدافٍ سياسية ، وفق مخطط مدروس ومعد له سلفاً ، ولا بد إلاّ أن نوضّح قضية تعلق المشروعية أو الشرعية بالإرهاب ، في أنه ليس من المفصل بصفة عامة الإعتماد على القوة كإسلوب للتعامل السياسي بين الحاكم والمحكوم ، لما قد يترتب على ذلك من فوضى وفتنة وخسائر وشيوع حالة من عدم الاستقرار ، أو الفلتان الأمني ، وفقدان الأمن والأمان ، حيث بالإمكان أن يقوم البعض بإستغلال هذه الحالة وتحويل كل مساراتها ، بهدف إرضاخ الدولة وتمزيق المجتمع ، كما أن الدولة إذا كانت تمتلك حق الاستخدام الشرعي للقوة لحفظ النظام العام ، فإن ذلك يجب أن يستند إلى وجود حالةٍ سائدة من النظام والأمن والقانون للدولة أفراداً وسلطة ، لذا فإن لجوء الدولة إلى العنف يصبح شرعياً ومشروعاً لأنه سيكون ضمن ضوابط حدود مُقررة سلفاً في الإطار القانوني الدستوري لها .
لذا نؤكّد إن الإرهاب غالباً ما يهدف إلى السعي لتحقيق أهدافٍ ذات طبيعة سياسية ، وليس الحصول على مكاسب مادية من وراء عملياته ، نعم قد تكون هناك سرقات كبيرة ، للإرهابيين ، وتحطيم البنية التحتية ، والضغط على المواطنين بطرقٍ شتى مثل قطع المياه والكهرباء وحرمانهم من معظم المواد الغذائية ، إلاّ أن الهدف الرئيسي المرسوم والمخطط له هو التأثير على القرار السياسي في الدولة ، عن طريق إرغام الدولة على إتخاذ قرار في مصلحتها ، ما كانت الدولة تتخذه أو تمنع من اتخاذه لولا الإرهاب .
ويتخذ إسلوب الإرهاب في هذا الشأن أمثلة عديدة ، مثل إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر ، أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالمرافق العامة أو الأملاك العامة أو الخاصة وإحتلالها والاستيلاء عليها ، أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر .
إذاً الهدف السياسي هو الذي يفرّق الإرهاب عن غيره من الجرائم الأخرى ، ولا سيما جرائم العنف ، فطالما لم يحدث العنف أي تأثير على مجريات القرار السياسي ، لا يمكن أن يُصنّف ضمن جرائم الإرهاب .
لذا فإن التهديد بالنظام العام أو الإخلال به جتمعاً أو منفرداً يُعدّ عملاً إرهابياً إذا ما إشتمل على العناصر الأخرى من إستخدام القوة على نحوٍ منظّم ومتصل وغير مشروع وكان هدفه سياسياً .

منطقة المرفقات

اترك رد