منبر العراق الحر :
يقولُ امرؤ القيس:
عُوجا على الطّللِ المُحيل لعلّنا
نَبكي الدّيار كما بَكى ابن حذام
ويقول كعبُ بن زهير :
ما أرانا نقولُ إلا رجيعا
مُعاداً من قولِنا مَكرورا
ويقولُ ابن رَشيق:
” الكلامُ من الكلامِ ”
نُدركُ مما ورد أنَّ مفهوم التّناص كانَ معروفاً عند العرب منذ القديم، لكن تحت مسميات أخرى كالاقتباس و التّضمين والمعارضات والتّوارد
والسَّرقات الأدبية.
لكن مع بدايةِ القرنِ العشرين، ومع ظهورِ مفهوم البنيوية وما بعد البنيوية، ضمن المفاهيم السِّيميائية، وعلى يد النَّاقدة الفرنسية البلغارية الأصل جُوليا كرستيفا، ظهر هذا المفهوم على شكل مصطلح وتطوَّر بدراسةِ أشكالهِ وأنواعهِ وطرائقهِ بعنايةٍ من نقاد أمثال رولان بارت 1975 والنّاقد جيرار جينيت
والتَّناص بالتَّعريف: لوحةٌ فسيفسائية، ونافذةٌ منفتحة ومستقبله لنصوص وثقافات أخرى، تتفاعلُ مع نسيج الدّلالة والسِّياق.
ونحنُ إذ نتحدثُ عن التَّناص فنحنُ أمام طرفين نصٌ مؤَثِر غائب ونصٌ مُتأثر حاضر، وهو موجود بالشّعر كما وجودهِ بالنَّثر، ويمكن تعميمهُ على مرافق الحياةِ العامة .
واذا أردنا تقسيمَ التّناصَّ حسب مصدره فهناك تناصّ أسطوري وتاريخي وديني و أدبي.
وإن اعتمدنا تقسيمهُ حسب المسافة بين النَّص الحاضر و النَّص الغائب “أو مجموعة النُّصوص” فهناك تناصٌّ مباشر وتناصٌّ غير مباشر.
ولهذا النَّوع أبعادٌ جماليةٌ عند الكاتبِ والمتلقي، فمن خلاله يقدّمُ الكاتبُ رؤية توفيقية بين الماضي والحاضر، ويخلق ظلالاً درامية، وبالمقابل بالنِّسبة للقارئ يستفز وعيه فتتولّد آراءٌ وأفكارٌ جديدة .
وفي رؤية نقدية:
“التَّناصّ لا ينفي خصوصيةَ الكاتب وميزاتِه، فهو نسيج من مخزون سابق، والتداخل أو التَّفاعل حالة طبيعية”
وهو بالطّبع يختلفُ عن السّرقات أو ” التَّلاص” كما أطلقَ عليه الشَّاعر و النَّاقد الفلسطيني عز الدين المناصرة.
وضمن نفس الرُّؤية يُقال:
“أن الكثيرَ كتبَ عن الأساطير – مثلاً – بلغته و أسلوبه فبثَّ فيها روحه وأنفاسه فتحوّلت لإبداع جديد” .
وإن الصّياغة البلاغية عند أحدهم قد تُعجبُ البعض فيعارضوها عمداً، كمعارضة أحمد شوقي 1932م لسينية البحتري 896م.
وقديماً قسَّم العربُ الشُّعراءَ إلى: شاعرٍ و شويعر وشعرور وتحدّثوا عن أشكال التّعالق النَّصي، فقربوه، وأعجبوا به، و بالمُقابل نبذوا السَّرقات وناقشوها وكتبوا وفصّلوا بالحديث عنها، وعن المفهوم المرادف لمُصطلح التّناصّ حالياً ، فمثلاً قسّم ابن أثير السَّرقات إلى أنواع :
١- النَّسخ وهو أخذ اللفظ و المعنى
٢- السَّلخ أخذ بعض المعنى
٣- المَسخ إحالة المعنى إلى ما دونه
٤- أخذ المعنى مع الزيادة
٥- عكس المعنى إلى ضده.
– وأرى نوعاً آخر قد لا يصنف ضمن السَّرقة بل ضمن التَّزوير وقلب الحقائق – وبرأيي هو أسوء مما ورد سابقاً – وهو بيع المنتوج الأدبي أو إهدائه لمن رغب وطابت نفسه له، فاختلطَ الحابلُ بالنابلِ، وغدا الشّعرور شاعراً من حيث ندري ولا ندري، وهذه الظاهرة تبدو واضحة في وقتنا الحالي –
إنّ الفرق شاسعٌ بين التّناصّ الذي يعكسُ خلفيةً ثقافيةً وفكريةً، وبين السَّرقات بأنواعها التي تدلُّ على أخلاقياتٍ وضيعةٍ، وتعدُّ من النَّقائص.
وقد تابع العرب حديثاً وقوفهم عند هذا المفهوم فانتجوا دراساتٍ وأبحاثٍ ومؤلفاتٍ حديثةٍ، أمثالهم الكاتب محمد بنيس، وجميل حمداوي، ومحمد مفتاح، وصلاح فضل، وسواهم كثر.