مشاهد ومواقيت تزكو بعطر التاريخ الفواح …. د. نضير الخزرجي

منبر العراق الحر :

تتأرجح حياة الإنسان بين الزمان والمكان، فمهما طال به العمر فالزمان يحكمه من جانب ومن جانب آخر يحكمه المكان، وإذا انتقل الى مكان آخر في مقطع من الأزمان العمرية الخاصة به، لم ينس المكان ولا الزمان، يحن إلى الزمكان الذي فيه ولد ونشأ، ومن سلامة الفطرة وشفافيتها أن يشتاق المرء الى ملعب صباه إن هجره لظرف ما، يعود إليه كطفل يشتاق الى والدته يرمي بجسده المرهق في حضنها يستعطف سواعدها وقلبها فتحنو عليه تضمه ضمّا، يعود إلى محلته ومنطقته ومملكته الأولى يخطف نظرة الى هذا الحائط من الحارة العتيقة ونظرة الى ذاك الحائط، ويقف طويلاً عند عتبة دار حبيب أو حبيبة، يسترجع خيوط الأيام الخوالي من بين كومة حوادث، وهو ينسج منها قطعة حرير يستعيد بها بريق سنوات لمعت في أزقة مدينته الحالمة، قد يرى صديقاً أو بعض أصدقاء من ذاك الزمن الذي كان كلٌّ يُمَّني النفس بتحقيق حلمه الوردي النديّ، فمنهم من ذبلت وردة أحلامه، ومنهم من أورقت، ومنهم من أينعت وذبلت بعد حين، وبين حلم وحلم بون شاسع من الفراق والبعد عن الديار والغربة عن دار الهيام، وحتى المسافر لبرهة من الزمن سائحاً في بلاد الله مترفلاً بين المناظر الخلابة يظل الشوق يجره إلى بلدته وهو لا يدري ما الذي يقوده إلى أزقة المدينة القديمة وهو بعد لم يملأ كأس الفرجة من راح رحلته، لا جديد في مدينته ولا طارئ في زقاق محلته، فالبيوت هي البيوت والوجوه هي الوجوه، ولكن حبل الحنين يظل مشدوداً إلى الديار إنْ قربت رحلته أو نأت غربته.

ولأن المكان له أهمية في حياة المرء وتاريخ البشرية، فإن الدراسات والأبحاث قائمة على قدمٍ وساق لمعرفة عديد الأماكن التي ذكرتها كتب التاريخ والكتب السماوية المقدسة، فإلى يومنا هذا لا يدري العلماء بالضبط أين استقرت سفينة نوح في الطوفان العظيم، أهي في الموصل أو الكوفة أو تركيا أو مكان آخر، وإلى يومنا هذا يبحث العلماء عن أينية عاصمة مملكة النبي يوسف في مصر وعزيزها، وعن مقر بلاط فرعون موسى وهاماناها وقارونها، رغم أنَّ الرواية اليوسفية العزيزية والرواية الفرعونية الهامانية جرى ذكرها مراراً في الكتب المقدسة.

وحيث يشتاق المرء إلى المكان الذي لعب فيه ونما، ويشتاق الى المدرسة التي تعلم فيها وارتقى، وإلى مكان العمل الذي قضى فيه شبابه وكِبرَه وترجَّل عن صهوة العمل متقاعداً طوعاً أو كرهاً، فهو مسيس الشوق إلى الموضع الذي ولد فيه عظيم من العظماء أو حلّ فيه أو مرَّ منه أو رقد فيه ثاوياً في لحده، يشد الرحال إليه، بخاصة إذا كان المكان قائماً إلى يومنا هذا رغم آلاف السنين، والمكين ثاوياً في قبره وشاخص مرقده ظاهر للعيان، فإن الشوق يبلغ مداه عند رؤية المكان أو الحلول عند مرقد المكين، فرحة عظيمة تغمرها عَبرة طويلة وشوق عارم إلى الأيام التي عاشها العظيم والأزقة التي تسبَّلها أو قطعها جيئة وذهابا، والزوايا التي حلَّ فيها وأوتد في أرضها خيامه ورحله.

هذا ما شعرت به عندما نزلت مدينة مكة المكرمة حاجاً في السنتين 1993م و2001م ومعتمراً في السنة 2024م، وزائراً في الرحلات الثلاث لمدينة الرسول عملاً بالقول النبوي المأثور: (مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي، كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي) رغبة في رؤية الحبيب وطمعاً في كرمه يوم لا ينفع مال ولا بنون وهو القائل: (مَن زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي)، وحتى لا أدخل في زمرة مَن قال فيهم الرسول المكرَّم صلى الله عليه وآله وسلَّم: (من حجَّ ولم يزرني فقد جفاني).

ولما كان الحج مزدحماً بالأعمال كثير المؤونة العبادية في أيام معدودات، فإن العمرة قليلة المؤونة عباديا كثيرة الأيام حسب ما شاء، وللمرء أن يتنقل هنا وهناك ويصل أماكن تاريخية لم يكن قادراً على الوصول إليها أيام الحج مثل الوقوف بيسر دون ضجيج على قمة جبل عرفات ملتقى آدم وحواء بعد فراق طويل في رحلة الهبوط من الجنة إلى الأرض.

 

مشاهد ناطقة

العمرة التي أدَّيتها مع الأهل في ربيع الأول وربيع الثاني من العام الهجري 1446هـ (2024م)، لم يزل زلالها يتقطر من لعاب الذاكرة القريبة، ومع رؤيتي لكتيب “شريعة الميقات” توقد لمعان الذاكرة، فهذا الكتيب الصادر حديثا (2024م) في 48 صفحة عن بيت العلم للنابهين في بيروت للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي يتناول الأماكن التي ينبغي للحاج والمعتمر الهبوط عندها والإحرام منها والتلبية منطلقاً نحو الحرم المكي الشريف، فلا حج ولا عمرة إلا الإبتداء منها، فهي بوابات الدخول إلى مكة المكرمة، فكما لا يصح دخول البيوت إلا من أبوابها وإذن أصحابها، فإن لبيت الله حرمة وكرامة.

وهذا الكراس الذي يمثل واحداً من ألف عنوان في الشريعة، أفرغ فيه الفقيه الكرباسي مائة حكم، وعلَّق عليها الفقيه الراحل الشيخ حسن رضا الغديري بمقدمة وألحقها بسبع عشرة تعليقة، وأردف فيه الناشر الأديب عبد الحسن دهيني مقدمة وضمًّ إليها تمهيد المؤلف.

في الواقع كلما قرات مسألة من مسائل الكراس فيه إشارة إلى مكان مررت به في رحلة الحج أو العمرة، توقفت عندها غير عجل، منتشياً بعطر التاريخ الذي يزكو في مشامنا وأحاسيسنا وأنا أراجع على سبيل المثال صور جلوسنا في الروضة الطاهرة من مسجد المدينة المنورة بين المنبر والقبر حيث يطرق قلوبنا قبل أسماعنا قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلَّم: (ما بينَ قبري ومنبري رَوضةٌ من رياضِ الجنَّةِ وصلاةٌ في مسجدي أفضلُ من ألفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلَّا المسجدَ الحرامَ)، فكنا نصلي وندعو عجالاً قبل أن تنتهي مهلة الدقائق العشر التي منحنا إياها موظفو الحرم النبوي الشريف، ونحن على دراية تامة أنَّ المنبر الذي على يميننا فيه وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم يخطب في المسلمين، وفي المحراب الذي أمامنا صلى فيه عليه الصلاة والسلام، والمرقد الذي على يسارنا فيه مثواه الطاهر يسمع سلامنا ودعاءنا، فكل شبر من هذا المكان المقدس يشعرك أنك جالس بين صحابة رسول الله وخلفائه، بل وجالس تستمع الى خطبة من خطب الرسول عليه الصلاة والسلام المجيبة على كل سؤال والناهضة لهمم الرجال.

ومن الصور المضيئة، جلوسنا في مسجد الشجرة في ضواحي المدينة المنورة ومنه إحرام أهل المدينة المنورة إلى الحرم المكي الشريف، وفيه تحدثت مع الرفقاء الذي صحبتهم في رحلة العمرة من كربلاء المقدسة عبر “شركة قريش للسياحة والسفر” الذي يبذل مشرفها العام الحاج حسين إمْصَيْوِل الشيباني وصحبه جهودهم الطيبة لخدمة ضيوف الرحمان، وكنت أرجع بهم ونفسي إلى التاريخ الإسلامي الأول، فكنت أقول لمن حولي: تذكر يا صاحبي وتصوَّر أنَّ في مجلسنا هذا جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعبداً، وفي هذه الزاوية قام الإمام علي عليه السلام مصلِّياً، وها هنا جلس الصحابي الشهيد أبو اليقظان عمار بن ياسر الكناني يحاور الصحابي المشير أبو عبد الله سلمان الفارسي المحمدي وبينهما الصحابي المحتسب أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري صاغياً.

ومن مشاهد رحلة العمرة رؤية الأولاد والأطفال، فكنت إذا تحولقنا في دائرة ورأينا الأولاد يمرون من أمامنا فرحين مبتهجين أذكِّر صحبي ونفسي بمرور الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر الطيار وغيرهم، مرورهم وهم صغار بين المصلين والنبي صلى الله عليه وآله وسلَّم بين ظهرانيهم خاطباً أو راكعاً وساجداً.

فالأماكن التي يقف فيها الحاج والمعتمر، والزائر لهذه البقاع التاريخية، إنما يقف في أماكن نابضة بالحياة، فكل حجر ومدر ينطق ويشهد على ما شهده الأنبياء والأولياء والصحابة والصالحين والكثير الكثير من العظماء منذ نشأة البشرية وإلى يومنا هذا، وفي عديدها وقف فيها آدم الوالد وإبراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح، ووقفت فيها هاجر وحواء، وحيث يقف الزائر في المشاهد الحية الناطقة بلسان التاريخ والحال، فإن أنامل الشوق تأخذ بتلابيب فؤاده يحدث نفسه بالعودة وتكرار المآل.

 

ميقات الزمكان

للوهلة الأولى تبدو كلمة “الميقات” وجمعها “المواقيت” إشارة إلى الزمان لا المكان بلحاظ الوقت الدال على الزمن بيد أن الميقات لغة واصطلاحا يشير الى كليهما الزمان والمكان، فالميقات مجرداً دال على الزمان تارة والمكان تارة أخرى حسب سياق الحديث، وإذا أضيف إلى غيره دلَّ على ما أراده القائل وعناه، من قبيل ميقات العمل الدال على وقت وساعات العمل والدوام، وميقات الصلاة أو موقتها الدال على حلول وقتها وزمان اتيانها، وميقات الحج والعمرة الدال على الأماكن تبدأ منها مناسك الحج والعمرة، وكما أورد الفقيه الكرباسي في التمهيد فإن الميقات: (هو الوقت وجمعه المواقيت، والموقت قد يكون زمانيا وقد يكون مكانياً، فمواقيت الصلاة زمانية ومواقيت الإحرام مكانية، والميقات في مصطلح الفقهاء هو المكان الذي يُحرم منه الحاج أو المُعتمر بتحديد من الشرع، وهي توقيفية حدَّدها الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فمنها ما حددها بالقول ومنها ما حددها بالفعل)، ويفيدنا الكرباسي بأنه: (قد وردت مفردة الميقات في القرآن الكريم في التحديد الزماني كما في قوله تعالى: “يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ” البقرة: 189، ومع هذا فإن التحديد المكاني قد يُفهم من بعضه وإن كان ظاهره التحديد الزمني وربما كلاهما مقصودان كما في قوله تعالى: “إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ” الدخان: 40، حيث يُفهم منه التحديد الزمني، والتحديد المكاني يُراد به أيضاً حيث لا يتم الزمان إلا بالمكان أو لا يتحقق بدونه).

وحيث مكة هي أم القرى ومحور النداء الرباني:” وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” الحج: 27، فإنَّ لكل مجتمع مسلم في هذه المعمورة ميقاته الذي منه يرتدي الحاج والمعتمر لباس الإحرام، وهي إثنا عشر ميقاتاً: وادي العقيق، ذو الحليفة، الجُحفة، يَلَمْلَم، قرن المنازل، محاذاة المواقيت الخمسة، بيت الحاج، مكة، فخ، الحُديبية، الجعرانة، والتنعيم.

وأخذ ميقات “ذو الحُليفة”، وهو ميقات أهل المدينة المنورة وزوارها شهرته، ففيه مسجد الشجرة الذي كان يستظل بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم، وفي هذا الميقات الذي يُسمى أيضا “أبيار علي” حفر الإمام علي عليه السلام ثلاثاً وعشرين بئراً أوقفها للحجاج والمعتمرين، ومن هذا الموضع الذي يبعد عن الحرم المدني نحو ثمانية أكيال، (أحرم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أربع مرات، ثلاثاً للعمرة ومرة لحجّ التمتع، الأولى في السنة السادسة للهجرة في سنة صُلح الحديبية، والثانية في السنة السابعة، والثالثة في السنة الثامنة عند فتح مكة، والأخيرة في حجة الوداع).

أما أقرب المواقيت من الحرم المكي فهو ميقات التنعيم الذي منه أحرم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ميقات أهل مكة ومن فيه، ويبعد عن الحرم المكي بأقل من سبعة أكيال، وكما وقفنا مع أعضاء قافلتنا محرمين من هذا المكان لعمرة ربيع الثاني 1446هـ تذكرت وقوف النبي وأصحابه الكرام المنتجبين وهم يحرمون لدخول بيت الله الحرام، إنها ذكريات الزمان والمكان والشخوص العظام، ذكريات محسوسة اللمس جسدياً وروحياً وشعورياً.

وأرى رأي الفقيه الغديري في تعليقه على شريعة الميقات أهمية الإنطلاقة السليمة نحو الحج أو العمرة: “فدور الميقات كدور اتجاه القبلة في الصلاة، فكما يجب توخِّي الدقة الكاملة في موضوع الميقات جهة وحُكماً فهو عيناً كما في تعيين جهة القبلة في الصلاة”، وهو نوع من أنواع التسليم للإرادة الربانية في تنظيم عمل الإنسان بأن يتقيد في العبادة مكاناً وزماناً، وقد أسبغ الله على المكان صفة القدسية من ذلك قوله تعالى في مرتفعي الصفا والمروة والسعي بينهما: “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ” البقرة: 158.

وحيثما يغادر الحاج والمعتمر ميقاتاً ما، فإنّ تفكيره يظل مشغولاً به وبمن حلَّ فيه وأقام الصلاة فيه أو أحرم، وإذا تركه إلى حيث الحرم المكي يتذوق ثانية شهد الذكريات وهو يطوف حيث طاف آدم وإبراهيم وإسماعيل عليهم السلام وطاف محمد صلى الله عليه وآله وطاف الصحابة والأئمة والأولياء والصالحين.

وحيث يطوف الحاج والمعتمر دوراته السبع حول الكعبة خلاف دوران عقرب الساعة مشاركاً في حركته دوران الأرض حول الشمس، فإن ما يلفت نظره ويعيده إلى العام 23 قبل الهجرة هو موضع جدار الكعبة في الركن اليماني الذي انشق للسيدة فاطمة بنت أسد بن هاشم القرشية زوجة أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي ومنه دخلت بطن البيت وفيه أولدت علياً عليه السلام بإذن الله ورعايته، كما في حديث طويل روته السيدة عائشة بنت أبي بكر التيمية، جدار ما زالت آثاره باقية إلى يومنا هذا يتهافت الحجاج والمعتمرون على استلامه باليد ويسعى البعض إلى تقبيله تبركاً كما يتهافتون على استلام الحجر الأسود وتقبيله، مستنين بسنة الرسول الأكرم صلى الله وآله وسلَّم وهو القائل وقوله وحي: (إنَّ مسح الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا).


الرأي الآخر للدراسات- لندن

 

اترك رد