منبر العراق الحر :
لم يعد المشهد الدولي كما كان، بل باتت الأحداث غير المتوقعة هي السمة الأبرز التي تعيد رسم خريطة القوة والتأثير. من الجوائح والأزمات الاقتصادية إلى الاضطرابات السياسية وصعود الشعبوية، أصبح العالم في مواجهة تحديات تتطلب استراتيجيات جديدة وإدارة مرنة للأزمات. في كتابه “في التقدم: مسارات ومربكات”, يقدم الدكتور محمود محيي الدين مفهوم “المربكات” كإطار تحليلي لفهم العوامل غير المتوقعة التي تعطل مسارات التقدم وتعيد تشكيل ديناميكيات القوى العالمية. ومن بين أبرز هذه الظواهر في العقد الأخير، برزت النزعة الأحادية في السياسة الدولية، التي تجسدت بشكل واضح في تجربة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أعاد تعريف مفهوم القوة والنفوذ وفق معايير جديدة، أثارت الجدل وغيرت ملامح العلاقات الدولية. لطالما هيمنت الولايات المتحدة على النظام الدولي، معتمدة على قوتها العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية. لكن مع وصول ترامب إلى السلطة في ولايته الاولى، تغيرت معادلات اللعبة. إذ استندت سياساته إلى نهج أحادي، قائم على فرض الأمر الواقع وتقويض المبادئ التقليدية التي شكلت النظام العالمي لعقود. لم يعد القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية أساساً للعلاقات الدولية، بل حلت محلها سياسات القوة المباشرة، حيث باتت المصالح القومية الضيقة تتقدم على أي اعتبارات أخرى، ما أدى إلى زعزعة الاستقرار الدولي وإضعاف الثقة في المؤسسات العالمية . لم يكن تعامل ترامب مع العالم العربي مختلفاً عن نهجه العام، بل كان أكثر وضوحاً في استغلاله للمنطقة كمصدر للنفوذ الاقتصادي والاستراتيجي. فقد تعامل مع الدول العربية من منظور تجاري بحت، قائم على “الحماية مقابل المال”، وسعى إلى تعظيم المكاسب الأمريكية من خلال صفقات السلاح والسياسات الابتزازية، التي لم تخلُ من نبرة استعلائية وازدراء للمنطقة وشعوبها. كما عزز انحيازه المطلق لإسرائيل، متجاهلًا الحقوق العربية، في خطوة زادت من تعقيد الأوضاع في المنطقة وعمّقت أزماتها . بصفته رجل أعمال قبل أن يكون سياسياً، لم يكن ترامب يؤمن إلا بمنطق الربح والخسارة، ولم يتردد في استخدام القوة الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية لتحقيق أهدافه. اعتمد على عنصر المفاجأة وخلق الأزمات لإعادة تشكيل المشهد العالمي وفق مصالحه، سواء من خلال الانسحاب من الاتفاقيات الدولية، أو التصعيد التجاري مع الصين، أو الضغط على الحلفاء التقليديين في أوروبا. ولم تكن طموحاته التوسعية بعيدة عن التاريخ الأمريكي، حيث أعاد إحياء فكرة السيطرة على مناطق مثل غرينلاند، في تأكيد على نهجه القائم على استغلال كل الفرص الممكنة لتعزيز النفوذ الأمريكي .من المرجح ان تتسم ولاية ترامب الثانية بالاستمرارية في سياساته السابقة مع تعزيز النفوذ الامريكي في المنطقة والعالم . ما يطرحه كتاب “في التقدم: مسارات ومربكات” يتجاوز تحليل الظاهرة الترامبية ليشمل التحديات الكبرى التي تواجه النظام الدولي اليوم، من تغير المناخ والتحولات التكنولوجية إلى الجوائح والأزمات الاقتصادية المتعاقبة. هذه المربكات تتطلب استراتيجيات استباقية، تقوم على التكيف مع المتغيرات والاستعداد لمواجهة المفاجآت، بدلًا من مجرد الاستجابة لها عند وقوعها. فالعالم اليوم بحاجة إلى رؤية أكثر شمولًا لإدارة الأزمات، وإعادة التفكير في كيفية بناء أنظمة مرنة قادرة على التعامل مع مربكات المستقبل . لم يعد المستقبل يُصنع وفق مسارات مستقرة، بل بات محفوفاً بالمفاجآت والتحديات غير المتوقعة. إن الفهم العميق لهذه “المربكات”، والاستعداد المبكر لمواجهتها، هو السبيل الوحيد لضمان استمرار مسارات التقدم. وبينما يعيد العالم ترتيب أوراقه في ظل الأزمات المتتالية، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن للدول أن تتكيف مع هذا الواقع الجديد، أم أنها ستظل عالقة في دوامة الصدمات والاضطرابات؟
