منبر العراق الحر :
يُروج اليوم لانطباع شائع مفاده أن العراق الملكي البائس ثم الجمهوري الدموي ثم البعثي التكريتي الاجرامي كان في حالة جيدة وظروف معيشية راقية وعلاقات خارجية متوازنة وسياسات داخلية حكيمة ؛ وهذا الطرح ، الذي يحظى بدعمٍ واسع في أوساط عدّة كالفئة الهجينة والطائفة السنية الكريمة و زمر القومجية والبعثية وبقايا العثمنة ودونية الاغلبية والامة العراقية ، يعتمد بشكل كبير على منطق زائف يقارن السيء بالأسوأ ، ويقارن مقدمات الأزمات والنكبات بنتائج نشوئها وانفجارها … ؛ وكلما واجه العراق وابناء الاغلبية والامة والحكومات العراقية تحديا سياسيا او تهديدا خارجيا او أزمة اقتصادية ؛ انبرى ايتام النظام وازلام صدام ومن لف لفهمها بتصوير العهود السوداء البائدة على انها جنات عدن ؛و إظهار المرحلة البعثية التكريتية الدموية على أنها كانت أكثر استقراراً وازدهاراً وتطورا وأمنا وقوة ومنعة … الخ ، حيث يجري تصوير العراق قبل عام 2003 بمثابة هدف ينبغي العودة إليه اليوم , والافتخار به …!!
لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن هذا الطرح الشيطاني – وإن وجد صداه في تلك الدوائر الطائفية والعنصرية والمنكوسة والمشبوهة والعفنة ؛ فهذا أمر طبيعي ؛ لان شبيه الشيء منجذب اليه ؛ الا ان الملفت للنظر انخراط شراذم من «الأكاديميين والاعلاميين والكتاب والمثقفين » و« الساسة الحاليين ورجال الدين والمعارضين سابقا» في ترديد هذه الاسطوانة التدليسية المخرومة ؛ في الوقت الذين يفترض بهم امتلاك صورة واضحة للوضع المأساوي الذي كانت تعيشه الاغلبية والامة العراقية قبل عام 2003 ؛ وضمير حي يشجب كافة جرائم ومجازر النظام البائد ؛ وحس وطني يدفعهم للتضامن مع السجناء والمعتقلين والضحايا وذوي الشهداء من ابناء العراق ؛ والذين تعرضوا لأبشع الانتهاكات وعاشوا في نيران الحروب والنزاعات والحصار والاضطرابات , وتجرعوا غصص الخوف والجوع والحرمان … الخ ، وعلى الرغم من ان هذا الطرح الباطل والاعلام الاصفر لا يحظى بالقدر نفسه من التصديق فضلا عن القبول على المستوى الشعبي – بل حتى على الصعيد العالمي فالاحرار والخبراء والاذكياء يعرفون حقيقة صدام ونظامه وازلامه تمام المعرفة – ؛ فالعراقيون الغيارى والمواطنون الاحرار الذين عاشوا تلك الفترة وخبروا صعوباتها اليومية، وشاهدوا بأم العين جرائم وجرائر النظام القمعي , واكتووا بنيران قراراته الجائرة وحروبه الخاسرة ومسرحياته السياسية المكشوفة واخطاءه الفظيعة ؛ يدركون أن الاوضاع العامة في تلك العهود السوداء والسنوات العجاف؛ لم تكن جيدة او في حال يُحسد عليه ؛ بل على العكس تماما ، اذ كانت تلك الظروف المأساوية هي الجحيم بعينه والعذاب نفسه ؛ فقد شمل التدهور كافة مجالات الحياة ؛ وانخفضت مستويات المعيشة لأبعد الحدود ؛ وتفاقمت الفجوة بين ابناء الاغلبية والامة العراقية وبين الفئة الهجينة والطغمة التكريتية الصدامية ؛ وارتفعت معدلات الفقر والبطالة والمرض والامية ؛ وشاع الخوف والجهل والرعب بين الناس , وامتلئت ارض الرافدين بالسجون والزنانين والمعتقلات وغصت بالسجناء والمعتقلين والموقوفين , وخضبت ارض العراق بدماء الملايين من ضحايا الحروب والاعدامات والمقابر الجماعية … الخ ؛ فكل من يصور لكم اخوتي العراقيين سنوات القهر والجمر وايام المجاعة والصبر على انها كانت سنوات خير وازدهار وايام عدل واستقرار ؛ كذاب دجال اشر .
هؤلاء المنكوسون كانوا ولا زالوا لا يفتأون يشاركون في كلِّ قضيةٍ مبركة وشهادة باطلة ومسرحية معدة سلفا للإشادة بالأنظمة الطائفية والحكومات الهجينة البائدة فضلا عن النظام الصدامي الاجرامي ؛ و بعض الانجازات البسيطة والقشرية والمشاريع الوهمية جرى تضخيمها بطرقٍ عدّة بهدف تجميل الواقع المتردي وتبييض صورة النظام الصدامي ؛ وهم بهذا التصوير الساذج والطرح التافه يهدفون الى تغيير قناعات الناس ويراهنون على سذاجة البعض وبلادة البعض الاخر ؛ من خلال قلب الامور رأسا على عقب , وتزييف الاحداث والحقائق , وتشويه الوقائع والشخصيات والتاريخ , وطمس المعلومات الحقيقية واخفاء الحق واستبعاد الصدق ؛ وتشويه متعمد للواقع ؛ ان هؤلاء يعانون من امراض نفسية وعقد عنصرية وطائفية واجتماعية , ومشكلات عميقة وبنوية ؛ اذ ان اساس بناءهم الفكري والمعرفي والثقافي , وجذر تربيتهم البيتية والمناطقية والطائفية ؛ يعتمد على الرؤى الظلامية والسلوكيات المنحرفة والآراء الباطلة والاعتقادات الفاسدة ؛ مما يزيدهم وعلى مرور الايام كذبا ومرضا ودجلا وانحطاطا وحقدا ؛ فالسرطان ان لم يستأصل فانه يقضي على كافة اعضاء الجسم السليم .
وبالتالي، فإن أي قراءة موضوعية لتصريحات وشهادات ومذكرات هذه الشلة المنكوسة واي تقييم للأوضاع السياسية والاقتصادية و الاجتماعية والثقافية والعامة في العراق قبل 2003، ينبغي أن تأخذ في الاعتبار هذه التعقيدات والمقدمات وتدرس حقيقة الشخصيات وتاريخها وبيئتها ، وألا تقع في فخ المقارنات المضللة , ولغة الارقام غير الدقيقة , والشهادات الباطلة والتقارير مدفوعة الثمن , ونظرة خاطفة فاحصة لما مر به العراق في العهد البعثي الصدامي تبين للمتابع المحايد والقارئ البصير والخبير النحرير بما لا يدع مجالا للشك ؛ بان تلك الحقبة هي الاسوء في تاريخ العراق المعاصر ؛ وكل ما تلاها من دمار واسع وخراب كبير طال المواطن والوطن معا ؛ ترجع اسبابه الموضوعية ونتائجه الواقعية الى طبيعة تلك الحقبة ومقدماتها البائسة والسوداوية ؛ فالأزمات الحالية في جوهرها كانت نتيجة طبيعية لسنوات الحروب والسجون والحصار والجوع والبطالة والفساد والاجرام والارهاب والنهب والسلب والازمات والنكبات والمعتقلات و الهزائم والخسائر والانتكاسات والسياسات الخاطئة والمشكلات المتراكمة التي لم تجد من يعالجها ، فكان انفجارها مسألة وقت لا أكثر ؛ اذ ورثت حكومات العهد الديمقراطي تلك التركة الثقيلة التي افرزتها الحكومات الطائفية والدكتاتورية ؛ وهذا لا يعني اننا الان نعيش العصر الذهبي للامة العراقية بقدر ما يعني ان العهود الغابرة ولاسيما الحقبة الصدامية كانت تمثل الجحيم والعذاب المقيم بالنسبة لأبناء الاغلبية والامة العراقية ؛ وبالتالي لا يصح مقارنتها بما نحن فيه الان ؛ فقد أسهمت تلك المقدمات في تدهور الاوضاع العامة وصعوبة ايجاد الحلول والمعالجات فيما بعد للازمات الطويلة والمشكلات المتراكمة والجرائم وشيوع ثقافة العنف والحقد الطائفي والمناطقي والعنصري ؛ وارتفاع معدلات الفقر إلى مستويات غير مسبوقة في تلك الحقبة السوداء الدموية ؛ والتي اثرت تأثيرا سلبيا على حكومات العهد الديمقراطي بعد العام 2003 .