الواقع السياسي .. الأزمة العميقة ….. فلاح المشعل

منبر العراق الحر :
تمتد الأزمة السياسية العراقية الراهنة الى سنوات بعيدة وتنطوي في منظومة العلاقات التي تجمع طبقات المجتمع مع النخب السياسية والاحزاب، ومايترشح عنها من وعي مجتمعي -سياسي معارض أو مدرك لدوره في حركة بناء النظام السياسي .
شهدت ثلاثينات واربعينات وخمسينات القرن العشرين تشكيل أحزاب سياسية روادها عدد من الشخصيات التي تأثرت بالفكر اليساري _الماركسي أو الفكر القومي أو الإسلامي ، فجاء الحزب الشيوعي العراقي ت ١٩٣٤ ، وحزب البعث البعث الاربي الاشتراكي ت١٩٤٧، وحزب الدعوة الاسلامي ت١٩٥٧ ، ولعل أهم ميزة لهذه الاحزاب أنها تشكلت من نخب سياسية ذات توجهات تحررية وباحثة عن تغيير في طبيعة النظام السياسي الملكي آنذاك .
ولادة هذه الاحزاب لم تكن بمعزل عن التأثيرات الخارجية التي كانت تعيشها المنطقة والعالم إبان تلك السنوات ، وكان الهوى السياسي والفكري للنخب التي تصدت لمهمات تشكيل هذه الأحزاب قد تأثرت بالنظريات والأفكار الآيديولوجية سعت لإسقاطها على واقع عراقي يعاني من ضعف وتراجع الاحزاب المحلية البعيدة عن تبني خطاب المواطنة والليبرالية ، ومن هنا انطلقت بالكسب الجماهيري والهيمنة على الساحات العمالية والفلاحية والطلابية ، وبما أنها افكار تعد تحررية وكونها معادية للنظام الملكي آنذاك ، فقد لاقت ترحيبا وتأييدا شعبيا واسع النطاق، والمقاربة الدقيقة تؤكد أن الفكرة أو الخطاب والشعار المعارض كان ينزل من فوق ، أي من النخبة السياسية التي تقود جماهير الحزب الذي كان يردد بحماس وروح ثورية ليس بالضرورة أن يستند لثقافة أو وعي ماكانت تردده قطاعات الجماهير ، بل ينسجم مع هواها في كراهية الملكية ونوري السعيد والانكليز والاقطاع وغير ذلك .
أخطأت الاحزاب المعارضة والبارزة آنذاك في معارضتها ومعاداتها للنظام الملكي الذي اعتمد مبادئ الدستور والحياة النيابية في تجربة مبكرة من تاريخ العراق السياسي الحديث، كان ينبغي على تلك الأحزاب تنمية الثقافة الديمقراطية والتأكيد على فكرة وعي المعارضة الشعبية، واعتبار المعارضة حق للمواطن من خلال وعي دوره ومشاركته السياسية عبر الانتخابات، وعدم التحريض والعمل على إسقاط النظام الملكي والإستعانة بالضباط الأحرار في تدبير (إنقلاب _ثورة) ضد الملكية ، الأمر الذي سمح للعسكر أن يتسلموا السلطة ويحولوا نمط الحكم من مدني دستوري نيابي يقوم على انتخابات حرة ، الى حكم مطلق للعسكر ومراهقتهم السياسية التي أضاعت مسارات التقدم للتجربة السياسية والديمقراطية العراقية، وأدخلت العراق في أتون صراعات وحروب داخلية وخارجية ماتنطفئ حتى تبتدأ ، ناهيك عن إنشغال تلك السلطات المتعاقبة بتقوية السلطة على حساب ترسيخ الدولة ومؤسساتها وجعل البلاد بكافة عناوينها تابعة للحزب الحاكم كما في تجربة سلطة البعث وكذلك الأحزاب الاسلاموية بعد 2003 .
أهم المؤشرات التي حدثت بعد الإحتلال الامريكي للعراق 2003 وإسقاط حكم حزب البعث، كان بروز الاحتجاجات الشعبية بتظاهرات كبيرة في عموم الوطن دون مشاركة الأحزاب، أي أن الجماعهير كانت تعبر عن رفضها واحتجاجها دون حاجتها لوجود أحزاب معارضة، لأن حكومة صدام عملت على قمع وإبادة أي فكر سياسي معارض للسلطة المطلقة في حكم العراق .
استيقظ العراق بعد 2003 على حركات احتجاجية بلا أحزاب بل كان وعي المعارضة والرفض سواء للإحتلال أم لسلطة الأحزاب الاسلاموية وفشلها الإداري والمالي احتجاجا ينطلق شعاره من القاعدة الشعبية ويصعد لمحاكاة السلطة السياسية بتنويعاتها البرلمانية والتنفيذية والقضائية ، وجلها احتجاجات ومطاليب تنشد الإصلاح وحقوق المواطن وثروات الوطن المنهوبة من الأحزاب المتلسطة والمتوحشة لدرجة أنها صارت تواجه الشعب بالرصاص والإعتقال والإعلام التضليلي المضاد .
المفهوم الجديد للمعارضة صار يتشكل وفق قواعد شعبية متنوعة ومتوحدة في مشروع المطالبة بوطن يحقق العدالة والحرية والمساواة في دورة استعادية للمبادئ التي نادي بها علماء الاجتماع السياسي جان جاك روسو وجان لوك وتوماس هوبز ، ماجعل الاحزاب تحاول اللحاق والاندماج مع هذه الحركات الشعبية المعارضة الواسعة والتي بلورة خطابها واهدافها بانتفاضة تشرين 2019 , ودفعت ثمنها بمئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعاقين .
نحن نرصد تطورات المشهد الإحتجاجي وضرورات تحوله الى مفاهيم وعي اجتماعي معارض وراسخ ، وبعض هذا المشهد صار يطلع بأحزاب ناشئة وجديدة ، واحزاب أخرى تحاول ان تستثمر في هذا ، لكن الجديد أن الشعب بقطاعاته الواسعة وبعد أن مارس المعارضة السلبية في مقاطعة الإنتخابات، صار يدرك أهمية أن ينتظم في تحالفات سياسية عراقية الهوية والمبتغى وتضم عددا من الحركات التشرينية والاحزاب الناشئة والشخصيات الوطنية المستقلة، تلك المخاضات سوف تجعلها تخرج بنظريات عمل مستحدثة محليا بموجب تفاصيل التجربة السياسية العراقية بجروحها العميقة وانتكاساتها التي تجسدت بخسائر بشرية ومادية كبيرة، لكنها حركة الشعوب وتحولات المجتمع تستدعي بالضرورة الوعي الجديد والتضحية لتحقيق آمالها بالحرية والتقدم .

اترك رد