منبر العراق الحر :
أوقفتني الصدف قرب متسول يفترش الرصيف ، مظهره يثير الحيرة بما يمتاز به من حيوية ونشاط , يرتدي اسمال بالية لكي يبدو فقيرا ومنكسرا ، كان يمد يده بكل مذلة للمارة دون حياء ولسانه يلوك كلمات حفظها عن ظهر قلب لكثرة مايرددها , يشكر من اكرمه ويلعن من لايعطيه بلسان كالسوط بأقبح عبارات الشتيمة والسباب ، وجدت رغبة في الحديث معه ومعرفة مافي قلبه .
قلت : مالذي يدعوك ايها المتسول ان تذم وتلعن الناس ، ينبغي عليك كمتسول ان تستميل مشاعرهم وعطفهم بدلا من كيل اللعنات لهم .
أجابني : انا اعرف هؤلاء حق المعرفة فهم اثرياء يملكون نصف المدينة ولكنهم بخلاء انذال فهم يستحقون لعناتي , قلت : كيف تمنح نفسك الحق بلعنهم .
قال : بغضب والعن آبائهم كذلك ، أنا لاارى فرق بيني وبينهم انا استجدي الناس وهم حفنة لصوص يسرقون الناس ، كيف تتصور طريقة جمع هذه الثروة الطائلة فهل تستطيع انت ان تملك مايملكون .
قلت :عذرك اقبح من فعلك مالك ومالهم فكل انسان مسؤول عن نفسه .
قال : ما هو نوع عملك ؟ .
قلت : انا كاتب ، سأكتب عن حالتك وافضح اسرارك فأجابني : انتم هكذا دائما لاتملكون سوى الكلام الفارغ ، ينبغي على قلمك ان يفضح اللصوص ويكشف الزيف بدلا من التجني على رجل مسكين وتكشف معايبه وتفضح افكاره وتؤلب الناس ضده وتقطع سبيل عيشه .
قلت : وهل انت من مصلحة الضرائب لكي تكشف حسابات الناس .
قال : انا انسان وللإنسان حق على اخيه الانسان وللأسف انهم تجردوا من انسانيتهم ، لقد اعمت المطامع بصيرتهم وشغلهم حب المال عما يدور حولهم .
قلت : وهل من الانسانية التي تدعيها ومن الرجولة ان تعيش كالطفيلي وتتقاعس عن البحث عن عمل شريف يصون انسانيتك ويحفظ ماء وجهك ويحفظ كرامتك من مذلة التسول . وهل من المنصف ان تلاحق الناس وتلعنهم وتوصفهم بأسوأ الاوصاف وتحسد رزقهم .
قال : انا لعنة وغضب الاقدار التي انزلتني لأخذ حقي من البعض والعن البعض وافضح حقائق البعض .
قلت : انت محتال محترف ، انا اعرف ان الشخص الذي يملك جسدا قويا وهو قادر على العمل ويلجأ الى السبل الرخيصة بالنصب والاحتيال والتسول لكسب المال ماهو إلا رجل وضيع ليس له كرامة ، كذلك اود القول : لو التهمتك المنايا ربما نلت شرفا لاتستحقه لكي تريح بدنك وتصون كرامتك التي اهرقتها على مسالك الاذلال والخنوع ، وتستريح الناس من بطش لسانك .
اجابني وقد انقبضت ملامحه لصراحتي قائلا : ويحك اتدعو علي بالهلاك ايها الكاتب اللئيم المتحاذق . بدلا من فضح الفساد والفاسدين واولئك الذين اصبحوا اثرياء في ليلة وضحاها ، جئت تضيق الخناق حول عنقي وتسلبني حقي في البحث عن لقمة عيشي ، ثم اضاف قائلا : اود ان تعلم ان الكدية اصبحت مهنه ولها طقوسها وأصبح سوقها رائجا هذه الايام كبقية المهن لها مساوئها وحسناتها ، لا يحق لك ان تتباهى برنين الفاظك وبريق كلماتك الفارغة امام رجل مسكين , اليس كذلك ؟ ، انا متسول ولو علمت بحالتي ألاقتصاديه لكرهت نفسك ولم تمسك قلمك مرة اخرى ، اكتنز الذهب وأنت لاتملك سوى قلم وأوراق ، لايسمعك احد عندما تتحدث ، اعلم ان الحياة تتودد للأغنياء الاقوياء وتذل امثالك ، ثرثرتك لاتغني من فقر ولاتشبع من جوع ، كفى بك مبالغة وتظاهر بالحكمة وأنت لاتستطيع تلبية رغبات اطفالك وتوفير متطلبات العيش الرغيد لعائلتك كما ينبغي ، ثم اتكأ على حائط قريب والقى بزفرات ساخنة منتشيا بقدرته على الكلام واشارته الى حالتي ألاقتصاديه وكأنه وجد لذة في طرح افكاره متوهما انه نال مني وأخرسني عن مجاراته في الحديث ، أزداد صوته حده ثم قال : دع افكارك ومثالياتك التي ازعجت سكينتي متمنيا ان لا ارى رقعة وجهك مرة اخرى .
نظرت اليه وكأنني ارى امامي ذئبا مفترسا بجلباب هذا المتسول الوضيع , قلت : تمكنت من استثارة مشاعرك العدائية بكلمات استفزازية ، اكتشفت حقيقتك وما تفكر به وكشرت عن انيابك الحقودة على ابناء جلدتك ، اعلم انني لا اتمنى كنوز الارض بالمذلة فعرق العمل يشرف الجسد ، نقودك النتنة التي جمعتها على انقاض كبرياء مباح على ازقة وارصفة الشوارع ، ان كان لك كبرياء اصلا ، لقد سحقت ماتبقى لك من كرامة , قبحك الله وأنت تصور الكدية على انها مهنه ولها محاسنها فأي محاسن هذه التي تتحدث عنها , تتباهى بنقودك وأنت بعمق الانسحاق والتشرد تزحف بشوارع المدينة بصورتك المقرفة التي تثير الاشمئزاز والغثيان كالحشرة , لقد اعطيت مثالا قبيحا للإنسان .
غادرته وذهبت في طريقي ولكن بقيت كلماته ترن في مسامعي بقوله ارحل كفانا الله شرك من كاتب ثرثار ، يحسن رصف الكلمات ولا يتقبل رؤية الواقع وحجم الخراب .
نهاد عبد جودة
٥٥
