منبر العراق الحر :
في لحظة إقليمية شديدة الحساسية، تتقاطع ثلاثة مسارات استراتيجية على مسرح الشرق الأوسط، لتشكّل مشهدا متوتراً يهدد بتفجر مواجهة واسعة النطاق. *أولها*، التهديد الإسرائيلي المتصاعد بشن ضربة استباقية ضد المنشآت النووية الإيرانية، مدفوعا ًبتقديرات استخباراتية تعتبر أن طهران باتت على أعتاب امتلاك القدرة النووية الكاملة. *وثانيها*، صعود الدور الحوثي كمصدر استنزاف متعدد الأبعاد لإسرائيل، عبر ضربات نوعية تطال العمق الاستراتيجي والاقتصادي لدولة الاحتلال، ما يوسّع من رقعة الاشتباك الجيوسياسي. أما المسار *الثالث*، فيتمثل في الجولة الخامسة من المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، التي استضافتها العاصمة الإيطالية روما بوساطة عمانية، في محاولة لاحتواء التصعيد، ولكن دون اختراق حاسم حتى الآن.
هذه *المسارات الثلاثة* – العسكري، الأمني غير النظامي، والدبلوماسي – لا تتحرك بمعزل عن بعضها، بل تشكل بنية مترابطة، تتفاعل فيها الحسابات الجيوسياسية والاصطفافات الإقليمية الجديدة، وسط غياب مظلة أمن جماعي قادرة على احتواء الفوضى الاستراتيجية التي تلوح في الأفق. فبينما تسعى إسرائيل إلى فرض معادلة ردع جديدة عبر الضرب من خارج الأطر التفاوضية، *تراهن إيران على توازن الرعب الموزع بين قوتها الصاروخية وشبكة حلفائها*، وتستخدم المفاوضات *كأداة لتعميق التناقضات داخل المعسكر الغربي*. في الوقت ذاته، يشكّل الاستنزاف الحوثي عنصراً مفاجئاً في معادلة الردع، يضغط على إسرائيل أمنياً، ويفرض معادلة رد غير تقليدية.
في ضوء هذه الخلفية، تسعى هذه الورقة إلى تفكيك هذا المشهد المركّب، وتحليل دلالاته الاستراتيجية، ورصد السيناريوهات المحتملة، في لحظة قد تكون مفصلية في مستقبل الأمن الإقليمي والنظام الدولي حول إيران.
*أولاً: الضربة الإسرائيلية المحتملة – مقامرة جيوسياسية؟*
في ظل تصاعد حدة التوتر الإقليمي وتراكم مؤشرات الانفجار، تقترب إسرائيل أكثر من اتخاذ قرار مصيري بشأن تنفيذ ضربة استباقية ضد المنشآت النووية الإيرانية، مدفوعة بجملة مبررات تراكمت خلال الأشهر الأخيرة. فمع اقتراب إيران من العتبة النووية، وامتلاكها مخزوناً متزايداً من اليورانيوم المخصب بمستويات تتجاوز 60%، ومع فشل المسار الدبلوماسي في روما في التوصل إلى “اتفاق أدنى”، تجد الحكومة الإسرائيلية نفسها أمام لحظة مفصلية يُعاد فيها تعريف معادلات الأمن القومي والردع الاستراتيجي. الضغوط الداخلية المتصاعدة، والانقسامات السياسية التي فاقمها الفشل العسكري في غزة، والعجز أمام حزب الله في الشمال، والاستنزاف الحوثي المستمر من الجنوب، كلها تدفع حكومة نتنياهو نحو خيار الهروب إلى الأمام عبر ضربة عسكرية خاطفة.
الطبيعة المرجحة لتلك الضربة لا تشير إلى حملة طويلة الأمد، بل إلى عملية مركزة ودقيقة تستهدف مواقع نووية استراتيجية مثل نطنز وفوردو، باستخدام صواريخ دقيقة وقنابل خارقة للتحصينات. إسرائيل، وفق تسريبات إعلامية، تعتزم تنفيذ هذا الهجوم من دون إعلان رسمي، على أمل امتصاص رد الفعل الإيراني بطريقة محسوبة، مدعية تجنب الأهداف المدنية، رغم أن سجلها في مثل هذه العمليات يؤكد أن الأثمان الإنسانية لا تمثل لها عائقاً فعلياً. الضربة، إن نُفذت، ستكون تطبيقاً صارماً لمبدأ “الضرب أولاً” الذي شكّل جوهر العقيدة الأمنية الإسرائيلية، كما حصل في ضرب مفاعل تموز العراقي عام 1981، والمفاعل السوري قرب دير الزور عام 2007، غير أن السياق الإقليمي والدولي اليوم أكثر تعقيداً وأشد تداخلاً.
المقامرة الجيوسياسية التي تخوضها إسرائيل لا تخلو من مخاطر جسيمة.
فالمضي بضربة عسكرية من دون تنسيق مع الولايات المتحدة قد يؤدي إلى أزمة ثقة عميقة مع الحليف الأكبر، ويعرض التفاهمات الأمنية والعسكرية الثنائية لاختلال غير مسبوق. كما أن الرد الإيراني، الذي قد يتخذ طابعاً مباشراً أو بالوكالة، لن يبقى محصوراً في الحدود الإيرانية، بل سيتوسع ليشمل جبهات متعددة، من لبنان عبر حزب الله، ومن اليمن عبر الحوثيين، ومن العراق عبر فصائل مرتبطة بالحرس الثوري. هذا الرد المتعدد قد يؤدي إلى إشعال الخليج العربي برمّته، وتعريض المنشآت النفطية والبنية التحتية الحيوية لهجمات ممنهجة، فضلاً عن تهديد حرية الملاحة في مضيق هرمز، ما قد يفضي إلى أزمة طاقة عالمية تذكّر بعقود الحرب الباردة.
تدرك إسرائيل أن حسابات الربح والخسارة في هذه المواجهة ليست بسيطة. فعلى الجانب الخاسر، قد تؤدي الضربة إلى تفجير مواجهة إقليمية شاملة، تُجرّ فيها الولايات المتحدة إلى الحرب رغماً عنها، وتفتح الجبهات على العمق الإسرائيلي بضربات صاروخية من الشمال والجنوب والشرق، وسط استنزاف داخلي وتهديد دائم للمدن الكبرى. أما على الجانب الآخر، فتكمن المكاسب المحتملة في تعطيل البرنامج النووي الإيراني لفترة، واستعادة جزء من الهيبة العسكرية الإسرائيلية التي تآكلت بعد فشل الردع التقليدي، وإعادة رسم قواعد الاشتباك في المنطقة على أسس جديدة تفرضها تل أبيب بالقوة.
ما يثير القلق الأكبر هو توقيت هذا التصعيد، الذي يتزامن مع مرحلة حرجة من مفاوضات روما حول الملف النووي الإيراني. فالضربة، إن وقعت، قد تنسف بالكامل هذا المسار، وتعيد الأطراف إلى مربع الصراع المفتوح، لا بل قد تجعل من أي مفاوضات لاحقة محاولة مستحيلة. في هذا المشهد المعقد، لا تبدو إسرائيل مدفوعة فقط بمنطق الردع، بل أيضاً بشعور متزايد بالعزلة والتهديد الوجودي، ما يدفعها نحو خيارات أكثر عدوانية، حتى ولو كانت عواقبها مفتوحة على احتمالات الانفجار الكبير.
*ثانياً: الاستنزاف الحوثي – الجبهة غير المتوقعة في البحر الأحمر*
في خضم التصعيد الإقليمي المستمر بين إيران وإسرائيل، تبرز جماعة الحوثيين في اليمن كفاعل غير تقليدي يعيد رسم معادلات الحرب غير المتماثلة في الشرق الأوسط. فقد تجاوز الحوثيون منذ مدة طويلة كونهم مجرد طرف في الصراع اليمني الداخلي، ليتموضعوا في قلب الفضاء الجيوسياسي الإقليمي بوصفهم ذراع استنزاف استراتيجية لصالح طهران. هذا التموقع لم يكن مجرد نتيجة لاصطفاف أيديولوجي، بل هو تطور وظيفي لمنظومة عمليات عسكرية تنفذ بدقة سياسية تتجاوز حدود اليمن وتخترق توازنات الردع القائمة في المنطقة.
منذ أواخر عام 2023، اعتمد الحوثيون تكتيك استنزاف منظم يستهدف إسرائيل عبر البحر الأحمر، سواء من خلال ضرب السفن المرتبطة بها، أو عبر توجيه الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية نحو عمقها الجنوبي. هذا الاستنزاف، الذي يدور خارج المعارك المباشرة، حقق جملة من الأهداف لصالح إيران من دون أن تلوث يديها بالمواجهة المباشرة. لقد أجبر إسرائيل على نشر وحدات بحرية إضافية، وأدى إلى زعزعة أمنها البحري، وساهم في تعطيل حركة التجارة العالمية عبر باب المندب وقناة السويس، ما أدى إلى استنفار غربي لم يكن بالحسبان. في الوقت نفسه، يقدم هذا التوتر البحري والجوي ورقة ضغط إضافية لطهران على طاولة مفاوضات روما النووية، ويمنح الحوثيين أنفسهم موقعاً تفاوضياً أفضل ضمن أي تسوية مستقبلية تخص اليمن أو الصراع الإقليمي الأوسع.
الهجمات الحوثية، رغم أن بعضها لم يخلف أضراراً مادية جسيمة، إلا أن وظيفتها تتجاوز البعد التدميري المباشر. فهي أولاً تشكل تهديداً غير تقليدي يعمّق هشاشة التفوق الدفاعي الإسرائيلي، ويجبر منظومات الردع مثل القبة الحديدية وحيتس على البقاء في حالة تشغيل دائم، بما يكلف خزينة الدولة الإسرائيلية مبالغ ضخمة ويستنزف الجبهة الداخلية معنوياً ونفسياً. ثانياً، تسهم في توسيع خارطة الخطر لتشمل الجنوب الإسرائيلي الذي ظل لسنوات طويلة خارج دائرة المواجهة النشطة، مما يكسر الصورة النمطية للأمن الإسرائيلي القائم على التفوق والسيطرة.
وبينما تراقب إيران نتائج هذه الحرب الاستنزافية من بعيد، تكتفي باستخدام هذه الورقة في سياق معركة التفاوض النووي، إذ يمكنها توظيف الهجمات الحوثية بوصفها رسالة غير مباشرة للغرب، مضمونها أن طهران قادرة على إشعال المنطقة بأدواتها من دون أن تكون هي الفاعل الظاهر. وفي المقابل، تتجنب إيران التصعيد المباشر مع الولايات المتحدة أو إسرائيل بما قد ينسف المحادثات في روما أو يقوض الجهود العُمانية الرامية للوصول إلى اتفاق نووي مستقر.
في نهاية المطاف، لم يعد الصراع مع إسرائيل محصوراً في الجبهات التقليدية في غزة ولبنان، بل بات متعدد الأذرع، تمتد أصابعه من بيروت إلى صنعاء، مروراً ببغداد ودمشق. وفي هذه الخارطة الجديدة، يحتل الحوثيون موقعاً متقدماً ليس فقط باعتبارهم قوة عسكرية متمردة، بل كطرف استراتيجي يعيد تعريف منطق الردع، ويحول الهجوم المحدود إلى أداة إنهاك طويلة المدى. فإيران، عبرهم، لا تبحث عن نصر ساحق، بل عن حرب بطيئة تنهك الخصم وتعيد تشكيل موازين القوى على المدى البعيد.
*ثالثاً: مفاوضات روما – أمل هش وسط التهديدات*
في روما، وبرعاية عُمانية، عُقدت الجولة الخامسة من المحادثات النووية غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من أمل في اتفاق يمنع إيران من تطوير سلاح نووي.
وبينما عبّر وزير الخارجية العماني عن وجود “بعض التقدم غير الحاسم”، أكد المسؤولون الإيرانيون أن الخلافات ما زالت جوهرية ومعقدة. وفي المقابل، حذر المسؤولون الأميركيون من أن إيران لن تُمنح القدرة على تخصيب اليورانيوم بأي اتفاق مقبل.
السياق الإقليمي الضاغط يجعل من مفاوضات روما أكثر من مجرد محادثات نووية؛ إنها مفترق طرق استراتيجي بين الحرب والسلام، بين عقلانية الردع واندفاع الضربات الاستباقية. فنجاح المفاوضات سيؤسس لتوازن هش، أما فشلها فسيمنح المبرر لإسرائيل لتفعيل خططها العسكرية، ولطهران لمواصلة التخصيب والدخول في طور الردع النووي الكامل.
باحث سياسي واقتصادي