منبر العراق الحر :
تلك الجميلةُ، كيفَ.. أصفُها؟
وإن وصفتُ؛ هل حقّها بالوصفِ أوفيها؟
يافا! وكانتْ عندَ اسْمِها
جميلةٌ … جميله
لكنّها اليومَ غريبةٌ، جريحةٌ
وكَوجه المَجدليةِ.. حزينه.
يافا؛ هي مسرح أحداث رواية، “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية، للكاتبة الفلسطينية سعاد العامري، والتي صدرت بالإنجليزية عام 2020، ثم بالعربية عام 2022 عن دار النشر ” المتوسط” حيث ترجمتها هلا شرّوف مع كاتبتها. تقع الرواية في 308 صفحات، وهي رواية مقتبسة عن قصة حقيقية، كما كُتب على غلافها. وبما أنها كذلك، فهي لا تحوي بين صفحاتها دلالات رمزية، ولا حتى عنوانها، ولو أن للبعض رأي آخر، حيث أعطوه هذه الصفة، صفة الرمزية؛ فمنهم مَن رأى أن البدلة الإنجليزية ترمز الى الطبقية، على سبيل المثال؛ لكني أنا شخصيًا، لم أجد فيه أي دلالة رمزية، رغم أني اجتهدت لكي أستقرئَ فيما إذا كانت البدلة الإنجليزية أو البقرة اليهودية ترمزان لأمرٍ ما، لكنّي لم أصل الى نتيجة، وظلّت البدلة بالنسبة لي بدلة، والبقرة بقرة.
كُتبتْ الرواية بلغةٍ سهلة، وبأسلوبٍ سَلس، وسردٍ واضحٍ ليس فيه تعقيد، الأمرُ الذي لا يتطلّب من القارئ أن يقرأ ما بين السطور، أو ما وراء الكلمات. تُصنّف الرواية ضمن روايات النكبة، فهي تحكي قصة الفتى اليافيْ، صبحي الميكانيكيّ، والبالغ خمسةَ عشرَ عامًا، ومحبوبته الطفلة “شمس” ابنة الثانيةَ عشرةَ سنة، عشيةَ النكبة عام 1947، وغداتها. هذه الفترة، (أي ما بين سنة 1947 و1948)، وأيضًا حدَث النكبة؛ قد تناولها الكثيرون من الروائيين الفلسطينيين وغيرهم، وكتبوا عنها، مع اختلاف القصة والمكان. على سبيل المثال لا الحصر: عكّا؛ في رواية “بلد المنحوس”؛ اللد في رواية إلياس خوري ” أولاد الغيتو”؛ صفورية في رواية “عودة ستي مدللة”؛ بيت ساحور في رواية “دبابة تحت شجرة عيد الميلاد” وغيرها، وغيرها من الروايات. كما أنه جديرٌ بالذِكر؛ أن الروائيين ليسوا هم وحدَهم الذين تناولوا حدث النكبة وقصصها بالكتابة، بل أيضًا الشّعراء قد تناولوها في نظم قصائدهم، والفنانون، والمخرجون في أفلامهم، (ولو أن هذه الأفلام ومنها ما شاهدته مؤخرًا، جاءت هزيلة، بالنسبة لفظاعة قصص النكبة. ولا أريد هنا أن أذكر أسماء بعضها، حتى لا أشتري الأعداء.
إذن؛ فموضوع رواية “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” ليس بجديد، لكنّ هذا لا يقلّل من قيمة الرواية أبدّا. أولًا؛ لأنه برأيي، لو كتب عشرة أشخاصٍ، أو أكثر، أو أقل عن ذات موضوع معين؛ فسنحصل على نصوص مختلفة؛ لأن كلَّ واحدٍ سيكتب من زاوية نظره هو للموضوع، وبمدى تأثير الموضوع عليه وعلى مشاعره، وبمدى تفاعله هو، مع الموضوع. ثانيًا؛ بما أن قصص النكبة الفلسطينية كثيرة، وكثيرة جدًا، على الكتّاب والمبدعين أن لا يتوقّفوا عن الكتابة عنها، حتى يتم توثيقها وتوثيق بشاعتها، وليتم نقل هذه القصص من جيلٍ الى جيل، مع الإشارة الى أن نكبة الشعب الفلسطينيّ ما زالت مستمرّة حتى هذه الساعة.
رواية سعاد العامري، “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” تكمن أهميتُها في التوثيق، ولا سيّما أنها جاءت بعد مقابلة العامري لشمس، بطلة روايتها في يافا، ثم لاحقًا مقابلة صبحي في عمّان. لقد روى أبطال رواية العامري قصتهم، شفاهيّا، فحوّلتها سعاد العامري الى سرد أدبي مكتوب. الأمر الذي، برأيي، قد يفيد كلّ مَن يريد أن يؤرخ، وليس فقط أن يؤرخ إحدى قصص النكبة، وإنما أيضًا أن يؤرخ الحياة الاجتماعية، والسياسية لمدينة يافا، بل ومعالمها وجغرافيتها… وهنا قد يقول قائل: لكنْ ليس جديدًا ما أرادت أن توصله الروائية سعاد العامري، بأن يافا قبل النكبة، بل وفلسطين كلّها من خلال يافا، كانت عامرة، وتضجّ بالحياة، وخاصة الحياة الثقافية والفنية. إذ أن هذا الأمر هو مفروغ منه. فمَن لا يعرف اليوم أن يافا كانت قبل النكبةِ عامرةً بأهلها، وبكل الوافدين إليها من كل مكان؟ مَن لا يعرف اليوم أن يافا، أمَّ الغريبِ، كانت تستقبل كبارَ الأدباءِ والفنّانين والمطربين من كلِّ الدول العربية، ليقيموا ندواتهم، أو ليحيوا حفلاتهم فيها، كأم كلثوم على سبيل المثال؟
هذا صحيح؛ ولكنّ الجديد التي أتت به سعاد العامري في روايتها “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية”، هو تفاصيلُ التفاصيل، فسعاد العامري بالرغم من أنها لم تعش في يافا، إلا أنها تفاجئ القارئ في روايتها بمدى معرفتها لِحواري يافا والقرى المحيطة بها وتذكرها بالاسم، وتتطرق الى أسلوب الحياة فيها، والى العادات التي كانت متّبعة فيها وفي يافا، وتفصّل عن الطقوس التي كانت سائدة المواسم، مثل “موسم النبي روبين” وهو الأشهر. كذلك، عددت العامري أسماء الشوارع والمقاهي في يافا، ولم تكتفِ باسمٍ أو اسمين، بل عددت أسماء معظم المقاهي والشوارع وشرحت عن ميّزة كل منهم وهذا، قد يكون جديدًا لكثيرين من القرّاء.
ومع ذلك، يحقُ لبعض القراء، وأنا منهم، بأن يتساءلوا: لماذا أعطت العامريُّ في روايتها، صفة البطولة، والصدق والشهامة، لشخصية العم حبيب، عمّ صبحي، مع أنه فاشلٌ بنظر عائلته ومجتمعه، وأنه مدمن على الكحول، وزّاني؟ هل لأن هذه هي حقيقة العم حبيب فعلًا، أم لأنها أرادت أن تكسر النمطية والأفكار المسبقة عن هذه النماذج، وتؤكد على ما جاء في روايات غيرها، سواء كانت عربية أم عالمية، مثل رواية “شرف قاطع طريق” لحنّا مينة، و”البؤساء” لفيكتور هيجو.. وغيرها من الروايات)؟ ثم؛ ألا يوجد تخوّف من أن تسبّب نظرة الرضى المتكرّرة في الأعمال الأدبية الى هذه النماذج، وإلباسِهم ثوب النقاء، بلبلة عند القارئ؟ وبالذات القارئ الشاب والفتى المراهق، بحيث يتلقى عبرها رسائل تربوية متناقضة؟
ثم لماذا أبرزت سعاد العامري في روايتها، الطبقية التي كانت سائدة في يافا، ولم تمزّقها، وأبقتها، حتى بعد حدوث النكبة؟ هل لأن الكاتبة ابنة الطبقة الراقية، ولا سيما أنها ابنة وزير؟ إذ برأيي، لا يمكن للكاتب أن يلغي ذاته عند الكتابة، وإن حاول، سيفضحه لا وعيه.
لقد كانت سعاد العامري جريئةً جدًا في كتابة روايتها، واستعملت شتائم لها مدلولات جنسية من العيار الثقيل، وأظن، لأن العامري أرادت أن تكون الشتائم حقيقية، أصلية، ولتؤكد على واقعية القصة. ولكن هل جرأتها جاءت، لأنها كتبت رواياتها باللغة الإنجليزية أصلًا؟ وأقصد، أنه قد يكون أسهل على البعض أن يشتموا بلغة أجنبية.
وأخيرًا وليس آخرًا؛ هل لا ينجح الكاتب في تسويق روايته، وجذب قرّاءٍ لقراءتها، إلا إذا عزف على أوتار غريزتهم الجنسية؟ ألا يكفي أن يُخاطبَ عقولَهم ومشاعرَهم؟ لقد احتوت رواية “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” فصلًا كاملًا بعنوان: “في الكرخانة” (صفحة 98)؛ تضمّن محتوى جريء جدًا. وأسأل: ألم يكن بإمكان الروائية سعاد العامري، توصيل ما أرادت توصيله باختصار، أو بالتلميح له؟
***********
مداخلة؛ قدمتها الكاتبة، جميلة شحادة في أمسية إشهار رواية “بدلة إنجليزية وبقرة يهودية” للكاتبة، سعاد العامري في نادي حيفا الثقافي بتاريخ 22.12.2022