*كلّنا متسوّلون! سردية واقعية من الحياة … كتبها : لخضر خلفاوي

منبر العراق الحر :

…لن أقول في هذا الْيَوْم أنّ يومي كان عاديا بالنسبة لي ، فأنا رجل عندما استيقظ صباحا و أهمّ بالخروج أعرف و الحمد لله على كرمه أن ” بلاوي الدّنيا ” لا تأخذها سِنة و لا نوم !.. صرتُ بالتجربة مع -ابتلاءت عدّة – أعلم غيب الحزن و الكروب بأيام أو بساعات قبل مجيئها !… -وصلت محطّتي للقطار (و ما أكثرها محطات وجعي !) لأهمَّّ بالسفر لأكون في الموعد الإجباري و الضروري الذي ضُرِب لي من خلال كتاب رسمي وصلني بريدا قبل يومين .. كانت لي قطعة منّي أصابها ضرّ الشيطان و مسّها كرب عظيم استعصى عليّ علاجها لأكثر من سنوات ستٍّ!. -بعض المعجبين بكتاباتي يقولون لي مادحين بأنّي ” أيقونة السّرد العربي ” ، فبقدر ما يسعدني هكذا انطباع بقدر ما يدفعني لتأمّل أكثر فيما أكتب و أراني حقّا ، ربّما غرورا بأنّي يقين السّرد الوجعي الحقيقي للمأساة الإنسانية” . – لا أخفي عليكم في سردية ذلك الْيَوْم الأربعائي من آخر أسبوع هذه السنّة المؤلمة حيثُ كنت لا أدري كم سيجارة تنفّستها -بشبق حزني – كبير قبل أن أعبر أنفاق المحطة و أرسو منتظرا على مرفأ المحطة في انتظار مجيئ القطار التابع لخطّ ligne D( دال) الخاص بمنطقة باريس الجنوبية الكُبرى. كان القطار يتقدّم و يطوي المسافات و كعادتي كنت ملتصقا بالمقعد الجانبي الذي يسمح لي برؤية تداول المدن الصغيرة على مرأى بصري و الفاصل بيني و بينها ( سكك حديدية ) تتلوّى كما الحيّات و الحياة تسعى نحوى محطات متتالية من المؤكد فيها بأس شديد !.. رغم تقدّم قطاري متوسط السرعة نحو محطّة نزولي المحاذية لمكان موعد ” كروب و امتحانات نفسية لا تقوَ عليها الجبال و لا تقدر على حملها !) .. من فيكم يستطيع أن يسكّن آلام قطعة بترها الشيطان بغتة منكم ، تشعرون مباشرة دون حاجز حسّي بعذابها ، بآلامها ، بصراخها ، بحزنها ، بقهرها لكنكم لا تستطيعون ضمها و محاولة التخفيف من كل تلك الآلام ! فقط تشعرون بكل تلك العذابات المتصاعدة المتزايدة و لا تملكون حيلة لاسترجاع تلك القطعة المنفلتة منكم و وقف نزيفها – دون إرادتها – بفعل شيطان مارد راهن على إيذاء قطعا منك ليستهدف قلبك المُخلص و العارف بالله الصّبور !. *كانت الساعات التي أمضيتها في ذلك الموعد المشؤوم المُغلق بمثابة قيامة المشاعر و الحزن فيه كما قلت “بأس شديد “.. القطعة تهذي ، القطعة تبكي ، قطعتك تتألّم ، قطعتك أصابها نصبُ الدّنيا المُشيطنة ، القطعة تطلب النجدة منك و لا تستطيع تغيير شيء و أنتَ كالمشلول أو كالمُصاب بالجثمام لا تستطيع تحريك شعرة واحدة منك و منها ؛ كل ما عليك أن تحاول و تسعى أن تبقى متماسكا بقدر المستطاع و تتفادى الإنهيار و التهاوي بكلك و السقوط لفرط الحزن .. *أخرج و انصرف بعد انتهاء الموعد الثاني من سلسلة لقاءاتي مع قطعتي المبتورة المكروبة المبتلاة المُعذّبة ، عندما أرى حالها أشعرُ أحيانا أنّ المسيح سوف ينزل من السّماء و يفتديها ، لكن المسيح مات و رفع ! انتهى موعدي الثاني معهم و لم تنتهي لا آلامي و لا آلام قطعتي ( المبتورة ) المتألمة المُحترقة باستمرار ! -عندما غادرت و ابتعدت عن ذلك المكان ( الملعون ) رافقتني -قهقهات الشيطان – طول مسافة المشي نحو طريق العودة لمحطة القطار ! كادت تلك القهقهات الماكرة الكافرة تمتزج مختلطة بكلمات الذّكر الحكيم المقروءة – استماعا – من خلال سمّاعات هاتفي الذكي .. اجتزت الأنفاق و صعدت لمرافئ تلك المحطة و اتخذت مقعدا لي في “مُستقرّ انتظار ” من فضاءات مخصصة للمسافرين الزجاجية ، كلّ لاهٍ في همّه ، ذلك الشاب الأفريقي منهمك حدّ النخاع ، و كلّه انتباه مركّز حول تلك الورقة الخفيفة الشفافة التي يريدها لفافة فيضع فيها تبغه و بعض مستخلصات ( الحشيش) المُخدّر ، كان يوضّب و يلفّ الورقة على التبغ المعالج بحبيبات المُخدّر ليحصل على سيجارته التي ستأخذه إلى عوالمه الموازية مع عالمنا ، يلفّ التبغ و حبيبات عجين الحشيش بحرص شديد شبيه بالاحتراس و السرّية .. أو ذلك العجوز الفرنسي الأصل الذي كان يقرأ و مُطأطئ الرأس يحاول أن يرتفع بأفكار ما كان يقرؤه غير آبه بالذي يبحث عن التخدير بإرادة نفسه و أو ذلك على الجالس على شماله خدّرته طعنات القدر ! لستُ أدري ما كان يقرأ هذا الستيني الفرنسي ! فقط كنتُ أقرأ سوء الطّالع في الفضاء أو استقراء بدايات هذه الظهيرة المتعبة مُلقى بأفكاري و ملاحظاتي الطائشة في كل الاتجاهات حتى أدركني صوت قدوم قطاري الذي سيعيدني إلى المنطقة القريبة من بلدتي و سكني .. ركبت عربة من عرباته و اتخذتُ متكأً لي ، دائما بمحاذاة نافذة العربية المقطورة .. كانت العربة التي اخترتها شبه مكتضة ، فإذ بطفلة صغيرة مُتخمّرة لا يتعدّى عمرها الثماني سنوات ، هي ليست مسلمة ، فقط هي أثر تاريخي أو من بقايا الثقافة الخلافة العثمانية الإسلامية في أوروبا ، فهي من غجر رومانيا ، أو ما يسمى ب ( التسيغان tsiganes ) جنوب شرق أوروبا ، و دون مفاجأة الكل يعرف أنها تمرّ بين صفوف الكراسي تتوسّل و تسأل المسافرين بالحاح مزعج النقود و المال … هي ليست لوحدها من المؤكد بحيث هذه الظاهرة المنتشرة هنا في فرنسا وراءها أولياء و أهل و شبكات استعمال الأطفال القصر في امتهان التسوّل و الدعارة و السرقة .. و أنا أرى ذهاب و أياب الطفلة الصغيرة الجريئة لا أدري كيف تذكرت صديق قديم من القرن الماضي يدعى “روبان Ruben” الذي حدثني عن طقوس كثيرة تبدو لنا كمغاربة و كعرب أو كغرب أيضا غريبة و مثيرة لجدل العقل ، التفصيل الذي علق بذاكرتي هو إقدام معظم العوائل -التسيغانية- على فكّ بكارة الفتيات الصغيرات عمدا ، حيث تخضع كل طفلة في مقتبل العمر إلى تدخل نساء العائلة إلى تقطيع و اتلاف غشاء بكارتها و هي طفلة صغيرة في السنوات القليلة الأولى من العمر ! كنتُ لما حدّثني عن هذه الطقوس أتألّم و أتقزّز في آن واحد و لم استوعب هكذا طقوس شأن ذلك شأن ما يمارس في بعض المناطق العربية مصر و جنوب السودان و بعض المناطق الإفريقية في ظاهرة ” ختان البنات “. كان ” روبان ” لما يلاحظ علي ذلك الانطباع يضحك عليّ و يقول لي ، هذا أمر عادي جدا بالنسبة لمجتمعاتنا و لهكذا قبائل من أمتنا العريقة .. ففكّ بكارة الأطفال من الإناث يعتبر تطهير و رفع قدر الفتاة و تنقيتها من كل المكابح و الظروف التي تحول بينها و بين حياتها المستقبلية و علاقاتها مع الرجال .. عندنا الفتاة فاقدة البكارة في سن متقدمة هي بنت محكوم عليها بأن تكون فتاة ذات تجربة صلبة و قوية و يحدث أن يتأخر اختراق بكارة بعض الفتيات في صغرهن فعند اقتراب موعد الزفاف و تحديدا في ليلة الزفاف تعمد خبيرة العائلة من النساء أن تُمارس على العروس طقوس فض بكارتها بحضور مساعدات من النسوة لها من التجمّع التسيغاني.. بعد التأويلات عندنا تقول أن هكذا غشاء خُلق مع الأُنثى – التسيغانية- هو ملك حصري العائلة و الأسرة و لا أحد ينزعه غيرها .. هكذا تُوجد عند – ممارستها لعلاقاتها مع الذكور – من خلال تجاربها الحياتية غير – مسدودة و لا منسدّة – بل تكون متاحة ، فالتخلص من هكذا غشاء فرجي ليس من مهمة الرجال الذين الذين يقيمون مغامرات مع بناتنا !. -عُدتُ في ومضة من الذّاكرة و من بعض تفاصيل طقوس فتيات رومانيا الغجر الصغيرات و كانت تلك الطفلة لا تكلّ من محاولة استعطاف المسافرين و المسافرات ، بين نظرات ازدراء و نظرات احتقار ، بين تأفف و صمت سلبي ، لكن الطفلة استطاعت بفعل إصرارها أن تحصل بعض القطع المعدنية من قبل مسافر من أصول أفريقية .. و هي تعود من حيث جاءت لتستمرّ في تسولها عابرة العربة المجاورة حيث يرقبها من يستعملها في هكذا مهمات تسوّلية يوميا .. كانت تتنقل بمعنويات مرتفعة ، سعيدة ، تبدو راضية منبسطة و البسمة لا تفارق وجهها البريء المشوّه بالظروف التربوية المؤدلجة لهذا النمط من العيش !. -كنتُ أتمنى بقاءها لأطول وقت ممكن حتى يصل القطار محطتي و أنسى قليلا ( صراخ و بكاء و عويل و نجيب و آلام و تألّم و عذاب ) قطعة من لحمي تركتها تعاني كل هذا وسط أسر و بلاء عظيم و أنا عاجز أن أضمّ إليّ تلك القطعة الثمينة المبتورة مِنّي الدامية .. تمنيت بقاء تلك الطفلة التسيغانية تُمارس تقوس التسوّل و تستجدي و تتوسل بإصرار ماكر و جريء كل مسافر و مسافرة لبلوغ غايتها ، لكان بقاؤها لبعض من الوقت قد أعفاني عذاب قلبي و روحي للحظات … لكنها اختفت حيث مآربها و برنامجها المتبقي و نزلت أنا أجرّ كل خيبات العالم و قهر الحياة ، نظرت إلى الساعة فأدركت أنه تقدم و بدأ يحل الظلام في هذا الْيَوْم الشتوي الغائم الممطر البارد ، لقد تجاوزت عقاربها الخامسة مساء ، حينها انتبهت أنّي لم أتناول شيئا و لم أتغدّى منذ مغادرتي البيت صباحا باتجاه ذلك الموعد الدوري المشؤوم المؤلم . بينما كانت -قطعتي – المبتورة هناك تتسوّل الرحمة و الخلاص و كنتُ أنا شاهدا مجثوماً بالعجز الكُلِّي ، و معايشا أتوسّل السّماء و أتسوّل منها الفرج الذي طال انتظاره ، لا أتحدث عن فرج الطفلة التسيغانية البريئة ، معاذ الله ؛ حتى لا يقولون عن سردي افتراه .. ما افتريته و لا تملكون لي من الله شيئا ، أليس هو أعلمُ بِمَا تفيضون ، ففيه كفى بسلطانه شهيدا و هو بين سردي و بينكم !.
*ـ باريس الكُبرى جنوبا ٢٧/١٢/٢٢

اترك رد