منبر العراق الحر :
إن مدار الفلسفة الفينومينولوجيا أو الظاهراتية حسب الترجمة للكلمة، هو العودة إلى الأشياء في ذاتها، العودة إلى تجربة المعيش. وبالعودة إلى الترجمة، فإن كلمة “الفينومينولوجيا” تتكون من لفظتين: أولًا “الفينومينو” وهو الظاهر أو الظاهرة، ثم “لوجي” الذي يفيد العلم أو الدراسة أو الخطاب. وبه، فإن الفينومينولوجيا تعني علم الظواهر أو الظاهراتية، كما درجت على تسميتها جلّ الباحثين والدارسين العرب لأعمال إدموند هوسرل. لكن شخصيًا، أفضّل اللفظ كما هو، أي “الفينومينولوجيا”.
هي فلسفة حديثة العهد ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وفجر القرن العشرين على يد الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل، فهي تيار فلسفي معاصر ظهر كرد فعل على الفلسفة الحديثة، باعتبار أن الفلسفة المعاصرة كلها بمختلف تياراتها ما هي إلا نقد وتفكيك ومراجعة للفلسفة الحديثة ومراجعة مفاهيمها الكبرى مثل (العقل، التقدم، الحقيقة، الحتمية) أو كما يسميها نيتشه “الأصنام الكبرى”، خصوصاً العقل الذي أُسندت له مهمة كبرى في هذه الفترة، نموذج الديكارتية، وكذلك ضد النزعات السيكولوجية والعلمية وحتى اللغوية المعاصرة لهوسرل.
هنا جاءت الفلسفة المعاصرة لتعيد النظر في هذه السرديات الكبرى، وما يهمنا هو تيار أو مذهب أو فلسفة الفينومينولوجيا بوصفها منهجاً وفلسفة في الوقت نفسه. هذه الفلسفة التي جاءت في فترة معينة من تطور العلوم، وأصبح وعي الإنسان وتجربته المعيشة كتجاوز لـ(تشييء الفرد من إنسانيته) وهيمنة الآلة
تتجلى أزمة العلوم الأوروبية بسبب جوهري يتعلق بانفصالها عن التجربة المعيشة الفردية. في خضم هذه الأزمة العلمية من جهة، والإنسانية من جهة ثانية، ظهرت الفينومينولوجيا كرد فعل، وتريد إعادة الاعتبار إلى تجربة المعيش. لذلك، هدفنا هو بيان كيف أعادت الفينومينولوجيا الاعتبار للتجربة الفردية، ثم الكشف عن كيف يمكن أن تكون الفينومينولوجيا أفقاً وطريقاً للتفلسف والفلسفة. لذلك نريد التبسيط والإيجاز، لا الإطناب والتعقيد
لكي نفهم الفينومينولوجيا أو الظاهراتية، لا بد من الحديث عن سياق ظهورها، أي ما هي العوامل التي تمخّضت عنها هذا النمط الجديد من التفكير والرؤية للعالم، أو بالأحرى العودة إلى الذات، القائم على شعار “العودة إلى الأشياء في ذاتها”. ولفهم هذا الشعار، لا بد من الحديث عن أهم المفاهيم التي وضعها إدموند هوسرل كبنية لفلسفة الفينومينولوجيا، ومنها: القصدية، وهي مفهوم استلهمه من أستاذه فرانتس برنتانو، وتعني أن كل وعي هو وعي بشيء، أي أن الوعي دائمًا متجه نحو موضوع. الإبوخية (تعليق الحكم)، وهي دعوة لتعليق الحكم على وجود العالم الخارجي، والتركيز على كيفية ظهوره في الوعي. الاختزال الفينومينولوجي، وهو عملية تصفية أو تنحية كل ما هو غير ضروري للوصول إلى جوهر التجربة. الرد الفينومينولوجي، أي العودة إلى التجربة الأصلية كما تُعاش، لا كما تُفسَّر أو تُؤوَّل. وأخيرًا، العودة إلى الأشياء في ذاتها، وهو الشعار المركزي الذي يدعو إلى تجاوز التفسيرات المسبقة، والعودة إلى التجربة المباشرة كما تُعاش من قِبل الذات
يمكن الانطلاق من القول التالي: إن الفلسفة الفينومينولوجيا هي فلسفة ديكارتية، لماذا؟ لأنها بكل بساطة تعلّق الحكم، وتضع المعارف المسبقة في سلة المهملات، وتتوجه إلى الموضوع بوعي خالص، خالٍ من كل الشوائب الزائدة. لذلك يمكن القول بأن الفلسفة الفينومينولوجيا هي فلسفة ديكارتية، بل ذهبت بالديكارتية إلى حدودها البعيدة. ومنطلق ديكارت وهوسرل واحد، وهو الوعي ومسح الطاولة والتخلص من المعارف المسبقة والأحكام القيمية. لكن أفقهما يختلفان؛ فإذا كان ديكارت يعتقد أن (الأنا) باستطاعتها حيازة المعرفة الكاملة دون الحاجة إلى الغير، فإن هوسرل نحَتَ مصطلح “التعالي”، الذي يعني من بين ما يعنيه الانفتاح على الغير، وأن عمل الأنا لا يكتمل إلا بالغير. وإذا كان الفكر عند ديكارت هو فكر حر طليق لا يقصد الموضوع (أنا أفكر، فأنا موجود)، فإن الوعي أو الفكر عند إدموند هوسرل ليس وعيًا إلا بشيء ما. فإذا أردنا صياغة الكوجيتو الديكارتي على الطريقة الفينومينولوجية، وجب القول: “أنا أفكر في موضوع ما، فأنا موجود”، كما قالها رائد النزعة الوضعية المنطقية كارناب مستهزئًا من ديكارت: “كان من الأفضل لديكارت أن يقول: أنا أشرب الماء، فأنا موجود”. هذا هو الاختلاف الجوهري بين هوسرل وديكارت، لكن كلاهما يجعلان من الطاولة الفارغة نقطة بدء، لدرجة أن إدموند هوسرل لديه كتاب بعنوان تأملات ديكارتية يشبه في هيكله كتاب تأملات في الفلسفة الأولى لديكارت. ومنه، فإن الإبوخية هي نقطة البداية المشتركة بين ديكارت وهوسرل. أما النقطة الثانية التي تفرد بها هوسرل، ليس عن ديكارت وحده، بل عن الأنساق الفلسفية السابقة والمعاصرة له أيضًا، فهي القصدية (intentionality). فالوعي عند هوسرل ذو طبيعة قصدية، أي يتجه إلى الموضوع؛ الوعي بوصفه حضور الذات إزاء ذاتها لا يكون وعيًا إلا بشيء ما. هذا المفهوم كان سابقًا على إدموند هوسرل، خصوصًا عند أستاذه برنتانو، عندما كان يسمي المنهج الفينومينولوجي بـ”السيكولوجيا الوصفية”، وهي ذات طبيعة قصدية، لسد تلك الفجوة التي توجد بين الذات والموضوع. لذلك، فإن مفهوم القصدية من إبداع هوسرل. إن كلًا من القصدية، والإبوخية، والاختزال، والرد، والعودة إلى الأشياء في ذاتها، مفاهيم تشكّل منهجًا أكثر مما تشكّل فلسفة. فالفينومينولوجيا فلسفة ومنهج في الوقت نفسه، حاولت إعادة الاعتبار لتجربة المعيش الفردية التي تجاوزها العلم، ومنهجًا يحاول العودة إلى الأشياء في ذاتها
إن عيب العقلانية حسب هوسرل يكمن في كونها تحوّل المعرفة إلى مجرد عملية استنتاجية، في حين يرى هوسرل أن المعرفة نشاط يكشف عن الحقائق بشكل مباشر وأصيل، الأمر الذي يعكس رغبة وطموح الفينومينولوجيا إلى إعادة تعريف الفلسفة باعتبارها ممارسة متجذّرة في التجربة الإنسانية، لا يكون فيها العقل مجرد أداة استنتاجية غايتها الأسمى استخلاص القوانين انطلاقًا من مقدمات رياضية محددة سلفًا، بل إن العقلانية لا تتحقق إلا بقدرة العقل على رؤية الحقائق بشكل أصيل انطلاقًا من تحديدها، فالعقل يُنظر إليه بوصفه وسيطًا بين الذات والأشياء المحيطة، مما يجعل العقلانية عملية ديناميكية للكشف عن المعنى. ليست العقلانية إذن مجرد معرفة نُميز من خلالها الصواب من الخطأ، بل هي تجربة تمنح للوعي إمكانية إدراك الكيفية التي تتشكل من خلالها الحقائق، “حيث تكون الفينومينولوجيا وفق هذا التحديد أقرب إلى التجربة الإنسانية، وليس نمطًا معرفيًا مجردًا”.
انتقد هوسرل النزعة السيكولوجية من خلال استعارة القصدية والعودة إلى الأشياء في ذاتها، فالقصدية هي التي تحمي الفينومينولوجيا من الوقوع في النزعة السيكولوجية. راهن هوسرل على المنهج الفينومينولوجي بوصفه إمكانًا يجمع بين العلم والفلسفة، وكذلك بوصفه أداة منهجية وفلسفية لتجاوز التوتر بين الفلسفة والعلم. وسعى أيضًا لإيجاد نقطة تقاطع بين العلم والفلسفة، واقتناعه أنه يمكن للعلم أن يُبنى على أساس الفينومينولوجيا منهجًا قادرًا على شرح الأسس الظاهرة والباطنة للظواهر.
الفينومينولوجيا بهذا المعنى تعيد اكتشاف التجربة الأولى لنا مع العالم، التي يتم فيها تقديم الظواهر كما هي في ذاتها. الفينومينولوجيا دعوة فلسفية للعودة إلى العالم المعيش، التجربة الأصيلة، الاكتشاف الأولي، العلاقة البكر، إلى الأصول، إلى السياق المباشر الذي يواجه فيه الإنسان العالم أول مرة بدون أي وساطة أو تفسير مسبق، حيث يمكننا اختبار الظواهر كما هي في ذاتها
بالحديث عن المنهج الفينومينولوجي، فكيف إذن يتم الاتصال مع الظواهر حسب هوسرل؟ إن المعرفة حسب هوسرل تبدأ مع الطبيعة القصدية التي يتمتع بها الوعي. إن رهان الفينومينولوجيا هو دراسة كيف يتمثل لنا الموضوع في الوعي والكشف عن ماهيته. في هذا السياق، يوظف هوسرل مفهومي (الهيولى والصورة أو الشكل)، لكن ليس بالحمولة الدلالية الأرسطية، بل يمنحهما دلالة جديدة تتفق مع المنهج الفينومينولوجي.
الهيولى هي المادة الخام التي تُعطى للوعي، وهي تشمل الإحساسات الأولية البسيطة التي تصل إلى الذات قبل أن يتم تنظيمها عقلياً أو إعطاؤها معنى. هذا العنصر الذي يمثل المادة الخام ليس بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل بالمعنى الظاهراتي؛ المعنى أي داخل الوعي وليس وجوداً مستقلاً خارج الوعي. ثم مفهوم المورفَى أو الصورة أو الشكل، لكن هوسرل يوظف مفهوم المورفَى (Morphe) أو الإيدوس (Eidos). هذا الأخير يشير إلى القصدية في فعلها المنظم، إنها الرؤية الجوهرية التي تفرض تنظيماً على الهيولى.
إن الفينومينولوجيا بهذا الوصف لا يمكن وصفها إلا أفقاً للتفلسف، أفقاً لإعطاء القيمة للتجربة المعيشة لبناء الحقيقة، ولجعل الوعي في ديناميكية متحركة، وليس مجرد مستقبل سلبي. لا شك أن هناك تشابهاً بين هوسرل وكانط من ناحية مراحل إنتاج المعرفة، خصوصاً في المرحلة الأولى: عند هوسرل الهيولى، وعند كانط الحساسية، تلك المادة الخام، ذاك اللقاء الأول مع التجربة. ثم مرحلة التنظيم: عند هوسرل القصدية، وعند كانط الفهم بواسطة المقولات القبلية.
تُمثِّلُ الفينومينولوجيا أفقاً تأسيسياً للتفلسف من خلال نقْلِه من التأمُّل المجرَّد إلى وصفِ الخبرة المعيشة في كونيتها وجوهريتها، متجاوزةً الثنائياتِ الفلسفيةَ التقليديةَ نحو فهمٍ للوجودِ الإنسانيِّ بوصفه “كوناً-في-العالم”. فهي لا تكتفي بمنهجٍ وصفيٍّ فحسب، بل تُعيدُ تشكيلَ الممارسةِ الفلسفيةِ ذاتِها عبر “التقويمِ” أو “وضعِ العالمِ بين قوسين”، ساعيةً إلى الكشفِ عن البُنى القَبْلِيةِ للتجربةِ من خلال العودةِ إلى “الأشياءِ ذاتِها” في ظهورها المباشر للوعي. هكذا تُعيدُ الفينومينولوجيا ربطَ الفلسفةِ بالعالمِ الحياتيِّ وتُؤسِّسُ لتقليدٍ حيٍّ يتجدَّدُ عبرَ الحوارِ مع الحقولِ المعرفيةِ الأخرى، مؤكدةً على أنَّ التفلسفَ الحقيقيَّ يبدأُ من دهشةِ الإنسانِ أمامَ عالمهِ المعيشِ وينتهي إلى وصفِ شروطِ إمكانيةِ هذه الدهشةِ نفسِها، مما يجعلُها أفقاً مفتوحاً ومتجدداً للتفكيرِ يرفضُ الانغلاقَ في النظرياتِ الجاهزةِ ويظلُّ وفياً لحركيةِ التجربةِ الإنسانيةِ وغناها المتعذرِ اختزاله.
.
منبر العراق الحر منبر العراق الحر