منبر العراق الحر :
ليست السينما في العراق مجرد فنٍّ بصري أو وسيلة ترفيه، بل هي مرآة دقيقة لتاريخ مضطرب، وذاكرة حيّة لوطن عاش التحولات الكبرى، من الملكية إلى الجمهورية، ومن الحروب إلى الحصار، ومن الدكتاتورية إلى الفوضى، ومن الألم إلى محاولات النهوض فالسينما العراقية، رغم قلة إنتاجها مقارنة بدول أخرى، تحمل ثقل التجربة الإنسانية العراقية بكل تعقيداتها وتختزن في مشاهدها حكاية شعب ظل يقاوم النسيان بالصورة.
_البدايات الأولى : دهشة الصورة وولادة الحلم
دخلت السينما إلى العراق في وقت مبكر نسبيًا، إذ عُرضت أول الأفلام الصامتة في بغداد والبصرة خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، مع ازدهار دور العرض الخاصة التي كانت تستقطب الأفلام الأجنبية، ولا سيما المصرية والهوليوودية. غير أن الإنتاج السينمائي المحلي ظل محدودًا في البداية، محكومًا بإمكانات تقنية ضعيفة، وغياب مؤسسات داعمة إضافة إلى هيمنة المسرح والإذاعة على المشهد الفني.
_أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. بدأت تتشكل أولى المحاولات الجادة لصناعة فيلم عراقي، فظهرت أفلام مثل «ابن الشرق» و«فتنة وحسن» التي استلهمت التراث الشعبي والقصص العاطفية، متأثرة بالسينما المصرية في بنيتها السردية وأسلوبها الميلودرامي كانت تلك الأفلام تجارب تأسيسية، أكثر منها مشاريع ناضجة، لكنها مهّدت الطريق لولادة وعي سينمائي محلي.
_ستينيات وسبعينيات القرن العشرين: السينما بوصفها مشروع دولة.
شهدت السينما العراقية تحولًا نوعيًا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حين بدأت الدولة تنظر إلى السينما باعتبارها أداة ثقافية وإعلامية. تم تأسيس مصلحة السينما والمسرح، التي لعبت دورًا محوريًا في إنتاج الأفلام الروائية والوثائقية، وتخريج الكوادر الفنية، وإرسال البعثات الدراسية إلى الخارج.
في هذه المرحلة، بدأت السينما العراقية تبحث عن هويتها الخاصة، متجاوزة التقليد السطحي، ومتجهة نحو معالجة قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية. ظهرت أفلام تحمل لغة بصرية أكثر نضجًا، وتقترب من هموم الإنسان العراقي اليومية، مثل الفقر، والتحولات الطبقية، والصراع بين الريف والمدينة.
كما شهدت هذه الفترة اهتمامًا ملحوظًا بالفيلم الوثائقي، الذي أصبح وسيلة لتوثيق مشاريع الدولة، والحياة الريفية، والبيئة، والتراث، وهو ما أسهم في تكوين أرشيف بصري بالغ الأهمية، رغم ما تعرض له لاحقًا من إهمال وتلف.
_السينما والحرب : الصورة تحت القصف.
مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، دخلت السينما العراقية مرحلة شديدة الحساسية. أصبحت الحرب موضوعًا مركزيًا في كثير من الأفلام، لكن المعالجة كانت غالبًا محكومة بخطاب رسمي، يغلّب البعد التعبوي على الرؤية الفنية الحرة. ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن بعض الأفلام حاولت، ضمن الهوامش المتاحة، أن تلتقط البعد الإنساني للحرب، ومعاناة الجنود والعائلات والخسارة الصامتة التي لا تُقال.
غير أن هذه المرحلة، على قسوتها، أسهمت في صقل خبرة عدد من السينمائيين العراقيين تقنيًا، لكنها في الوقت نفسه قيدت الخيال، وأخضعت الصورة لشروط السياسة.
_التسعينيات : الحصار والسينما المعطّلة.
جاءت تسعينيات القرن الماضي قاسية على السينما العراقية كما كانت على كل تفاصيل الحياة. الحصار الاقتصادي دمّر البنية التحتية للإنتاج، وتوقفت أغلب المشاريع السينمائية، وأُغلقت دور العرض أو تحولت إلى فضاءات مهملة. هاجر كثير من السينمائيين، أو اتجهوا إلى العمل التلفزيوني، أو توقفوا عن الإبداع قسرًا.
في هذه الفترة، أصبحت السينما حلمًا مؤجلًا، وذاكرة مكسورة، بينما ظل العراق حاضرًا في أفلام الآخرين، لا في أفلام أبنائه.
_ما بعد 2003 : ولادة جديدة من تحت الركام.
بعد عام 2003، دخلت السينما العراقية مرحلة جديدة، اتسمت بالفوضى، لكنها حملت في طياتها إمكانات غير مسبوقة. غياب الرقابة الصارمة، وتوفر التقنيات الرقمية منخفضة الكلفة، وعودة بعض السينمائيين من المهجر، كلها عوامل أسهمت في نشوء موجة سينمائية مستقلة، تعتمد على المبادرات الفردية أكثر من المؤسسات الرسمية.
بدأت تظهر أفلام تشتبك مباشرة مع الواقع العراقي الجديد: الاحتلال، العنف الطائفي الإرهاب، الهجرة، فقدان الهوية، والبحث عن معنى للحياة وسط الخراب. اتجه كثير من المخرجين إلى السينما الواقعية، بل القاسية أحيانًا، مستخدمين الكاميرا المحمولة، والممثلين غير المحترفين، والفضاءات الحقيقية.
برزت أسماء عراقية في المهرجانات الدولية وبدأت السينما العراقية تستعيد حضورها العالمي، لا من باب الدعاية، بل من خلال الصدق الفني وقوة الموضوع.
_السينما العراقية والهوية.
أهم ما يميز السينما العراقية الحديثة هو انشغالها العميق بسؤال الهوية: من نحن؟ ماذا حدث لنا؟ وكيف نروي قصتنا بأنفسنا؟ السينما هنا ليست ترفًا، بل فعل مقاومة ثقافية ضد النسيان والتشويه. هي محاولة لإعادة كتابة السردية العراقية من الداخل، بعيدًا عن الصور النمطية التي رسمها الإعلام العالمي.
تعالج الأفلام العراقية المعاصرة ثيمات الذاكرة، والطفولة المكسورة، والمنفى والمرأة، والمدينة الجريحة، والريف المنسي، والإنسان العادي الذي يحاول النجاة.
_التحديات الراهنة.
رغم كل هذه المحاولات، لا تزال السينما العراقية تواجه تحديات كبيرة، أبرزها:
.غياب الدعم المؤسسي الحقيقي.
.ضعف التمويل المحلي.
.قلة دور العرض الحديثة.
.انعدام سوق سينمائي داخلي مستقر.
.نقص التعليم الأكاديمي المتخصص.
.ضياع الأرشيف السينمائي الوطني.
هذه التحديات تجعل السينما العراقية تعتمد غالبًا على الدعم الخارجي والمهرجانات الدولية، وهو ما يفرض أحيانًا شروطًا غير فنية على المحتوى.
_آفاق المستقبل : صورة تبحث عن ضوء.
ومع ذلك، فإن المستقبل ليس مظلمًا. فالعراق يمتلك طاقات شابة، وقصصًا لا تنضب، وواقعًا دراميًا كثيفًا يصلح لأعظم الأفلام. ما تحتاجه السينما العراقية هو:
_استراتيجية ثقافية واضحة.
.تشريعات داعمة للإنتاج السينمائي.
.شراكات إقليمية ودولية متوازنة.
.إعادة تأهيل دور العرض.
.حماية الذاكرة السينمائية.
ختاما ان السينما في العراق ليست مجرد تاريخ أفلام، بل تاريخ صراع بين الصورة والواقع، بين الحلم والخراب، بين الصمت والكلام إنها فن وُلد في ظروف صعبة وتعثّر كثيرًا، لكنه لم يمت وكل فيلم عراقي يُنجز اليوم هو شهادة حياة، ورسالة تقول إن هذا البلد، رغم كل شيء، ما زال قادرًا على أن يرى نفسه، وأن يحكي حكايته، وأن يضيء شاشة صغيرة في عتمة طويلة.
د.رافد حميد فرج القاضي
منبر العراق الحر منبر العراق الحر