(الهروب ) قصة قصيرة ….بقلم نهاد عبد جودة

منبر العراق الحر :
امسية كئيبة ولحظات عصيبة حاصرتني بشراسة , طقس متمرد اغتصب سكينة الطبيعة , صفير الرياح يعزف على نافذتي سيمفونية القلق , بدأت الحيوانات تفر مذعورة بحثاً عن مغاور تؤويها , هطلت امطار غزيرة زاد من جنون رغبتي على مغادرة المنزل في ظل هذه الظروف القاسية , وجدت في سيارتي ملجأ يسهل هذه الرغبة . القيت بنفسي خلف المقود , اتصفح الخيارات , اقلب الافكار , فكرة مغادرة المنزل هي الخيار الذي فرض وجودة بقوة .
توقف المطر , وميض البرق ودوي الرعد زاد من وحشة روحي , هذه الاجواء التي كنت اعشقها في عهد الطفولة , اصبحت ظواهر تثير الحزن في قلبي , غادرت المنزل وبدأت اجول بشوارع المدينة الخاوية , التقطت السماء انفاسها ثم بدأت تنثر على الوجود قطع من الصقيع البراق كأجزاء القطن , ارتدت الطبيعة بدلة زفافها البيضاء , وأصبحت اغصان الاشجار كأجنحة النوارس , عجلات سيارتي تسير بهدوء حذر على ارض زلقة غطتها الثلوج , هبط الظلام وأصبحت المدينة كمقبرة كبيرة في عتمة ابدية , ماسحات الزجاج ارهقت اكتافها كتل الثلوج , كانت تسحب نفسها بمشقة , اصبحت الرؤيا شبه معدومة .
هناك شبح اسود يسد الطريق , اعتقدت انني على وهم , اقتربت منه بحذر , لم اتمكن من مراوغته , الوقوف هو الخيار الانسب , احتواني ذعر مباغت , نظر الي من خلال زجاج السيارة , كان يتشح بالسواد المرصع ببقع الثلج البيضاء البراقة , لم اشاهد ملامحه بوضوح إلا بريق عينيه , اعتقد انه يتكلم ولكنني لم اسمع ما يقول , فتح الباب اخيرا وجلس على المقعد المجاور بجرأة غير معهودة تثير عدم الارتياح .
القى التحية بإطراف اصابعه الملتفة بكفوف قطنية سوداء , ثم اشار الى الامام وكأنه يؤمرني ان اسير وأنفذ طلباته , التزمت الصمت واستجبت لرغبته , ضغطت على دواسة البنزين دون اعتراض , كنت مهتماً بمراقبة الطريق وأحاول قدر الامكان ان انسى ان ثمة خطر يتربص بي , ان ابعد عن رأسي سوء الظن , بينما انا في عتمة التوقعات سمعت نبرات صوت انثوي رقيق , حينها ادركت انها امرأة , كشفت عن وجهها الجميل , ثم رفعت غطاء رأسها المبلول حتى انسكب شعرها الغجري الطويل على اكتافها , بدأت تجفف وجهها وشعرها وتعيد توازنها , كانت امرأة رائعة الجمال , كملاك هبط من ملكوت علوي .
تحاصرني بمراقبة غير معلنة , استفزاز مهذب تحت طائلة نظراتها الشرسة , التقت نظراتنا صدفة , انفرجت شفتاها عن ابتسامة رقيقة , ابتسامتها كانت بمثابة بطاقة تعريفية عن حقيقتها المثيرة .
قالت : عذراً اخي , لقد اعترضت طريقك بشكل وقح ومباغت لأنني مرتبكة وتائهة , كنت خائفة ولم املك من الخيارات إلا الوقوف امامك , الطرقات موحشة والثلوج المتراكمة صادرت اية بارقة امل في قلبي , رأيت مصابيح سيارتك من بعيد فأدركت انك القدر الذي جاء لنجدتي .
قلت لها : لا بأس , اتمنى ان يكون كل شيء بخير .
الطريق الملتحف بأكداس الثلوج يزيد من محنتي مع زائر مجهول لا زال يثير الرعب في قلبي , ربما اخشى حكايتها , اخشى السر الذي يلوذ خلف شخصيتها الهادئة .
فتحت حقيبتها حتى فاح منها عطر مذهل ملأ انفاس المكان , نحن في عراء الطبيعة القاسية , تحت سقف السيارة الصغير , مكان ضيق يحتوي جنون الرغبات , جنون امرأة ورجل التقيا في ضيافة الطبيعة المجنونة وفي ظروف لازالت غامضة , تدور في قلبينا الكثير من الاسئلة , من يتمكن ان يكسر جدار الغموض .
كانت رغبتي ان اطوف شوارع المدينة ثم اعود الى المنزل , لكن الان الوضع مختلف مع ضيف لا اعرف ما هي طلباته .
لا يُنكر انها انثى ودودة , احسست بميول الاطمئنان اليها , كانت تشاركني مراقبة الطريق بتوتر وخوف , تمسح وجهها بين الحين والآخر , عيناها تشعان بكثير من الرقة والإنسانية , انوثتها كشفت وعرت نقطة ضعف مزمنة في قلبي , قلب ينبض للجمال من الوهلة الاولى , قلب شاعر مرهف الاحساس , كنت حريصا على التماسك امام عواصف جمالها المدمر .
قلت : يبدو ان سبب خروجك في هذه الظروف القاسية له مبرراته .
قالت : ربما هو سبب يشابه محنتك وخروجك في هذا الوقت .
قلت : انا رجل , قد يلغي المجتمع كل تساؤلاته بشأن خروجي في اي وقت اشاء .
قالت : لا شأن لي بمجتمعك الذكوري الذي لا يرحم المرأة , هذا المجتمع هو مصدر ازعاج دائم لها .
قلت : خرجت للترفيه عن نفسي .
قالت , كلماتك تفوح منها رائحة الكذب , اقرأ على وجهك ملامح متكدرة .
على العموم انا ادرك لهفتك على معرفة كشف الغموض عن حقيقتي .
انا زوجة غير محظوظة , خاصمتني الحياة بشكل عدائي , تزوجت الرجل الذي بادلني الحب , وصلت بي الامور الى التفكير الجدي بالانتحار , حاولت مراراً ولكن باءت محاولاتي جميعها بالفشل , هذه الليلة القاسية وجدتها مناسبة تماما لتحقيق رغبتي بمفارقة الحياة لولا مجيئك , لا تهتم بشأني , سأفارقك حيث الخلوة , هناك في العراء اكون طعماً للحيوانات المتوحشة , او الموت تحت هذه الظروف الشرسة .
قلت : انا لم احدد هدفاً لرحلتي بعد , اطوف الطرقات دون هدف , لو تجازفين بالبقاء معي ربما تصدمنا مفاجئة ستجعل اشلائنا متناثرة على حافة الطريق , حينها سيتهمنا الناس بالرذيلة , كل براءة العالم لا تقنع زوجك ولا زوجتي .
قالت : زوجتك نعم , هذا بالفعل ما يدور في خلدها , لكنني اطمئنك ان زوجي لا يعير اهمية الى مسألة الشرف .
قلت : ماذا تقصدين , اكملي حكايتك لكي اعرف .
قالت : كان زوجي يعمل بمهنة محترمة في شركة , كانت حياتنا هادئة ورتيبة , الامور كانت تسير بشكل مقبول , احد الايام اودع في السجن بعد ان مسكوه بالجرم المشهود , لقد سرق رصيد الشركة عندما وجد القاصة مفتوحة سهواً , حُكم عليه في السجن لمدة ستة اشهر ثم طُرد من الوظيفة , عانيت خلال هذه الفترة اقسى ايام حياتي , عملت في معمل للخياطة لكي اوفر لقمة العيش لنفسي , لم يبقى لي في الحياة سوى امي التي رحلت هي الاخرى بعد معاناة مع المرض , واحدى قريبات والدي تسكن في حي شبه مهجور بإطراف المدينة .
انقضت فترة السجن , خرج يحمل معه ملامح خيبته , كان كسولاً بشكل مزعج , يرفض البحث عن عمل , يدفعني الى العمل دون مبالاة , لم اجد ذرة من الغيرة في قلبه , لم يهتم لجمالي ولم يخشى نظرات الرجال المتعطشة للشهوة .
احد الايام حدثني بموضوع اصابني بالصدمة , لم اتوقع ان اخلاقه انحدرت الى هذا الدرك , كان يدفعني الى الرذيلة لكي اوفر له المال , واجهته بعنف , حدث شجار بيننا , انهال على جسدي بوحشية دخلت على اثرها الى المستشفى , رفضت اللجوء الى الشرطة لكي اعطيه فرصة تدارك الوضع والرجوع عن هذه الافكار المشينة , يبدو انه لم يتعظ بعد , تمادى في غيه , في احدى الليالي جاء بصحبة رجل مخمور , يدعي انه من اثرياء المدينة , للأسف تمكنا من اغتصابي بعد ان قيدوا اطرافي , بقيت ابكي الى الصباح , اعتذر بعد ان عاد الى وعيه من السكر , قبل يدي وجبيني واقسم ان لا يكرر هذ العمل المعيب , في مساء هذه الليلة جاء بصحبة قناني الخمر والفواكه , ابلغني انه ينتظر مجيء ضيوف مهمين ويجب ان استعد معه على قضاء ليلة حمراء كما يقول , جن جنوني ولكنني تمالكت نفسي حتى تمكنت من التسلل والهرب من المنزل , اتمنى الموت على العودة الى هذا الفاسق القواد .
قلت : وفقك الله , انتِ انسانة طاهرة ونقية , تأبى ان يلوث جسدها الفسق , فضلت الضياع على فقدان كرامتها .
ساد بيننا صمت حذر , كسرت جدار الصمت بسؤال ينضح بالفضول .
قالت : حدثني عن سبب خروجك من المنزل .
قلت : هي نزوة او جنون , ربما افسرها لاحقاً بالهزيمة .
فسرها كما شئت , حدثني لكي اعرفك اكثر .
حسناً , انا شاعر امتلأت اوراقه بقوافي الحب , املك قدراً من البهجة والأحاسيس الرقيقة وقدراً من الحزن والخيبات , يبدو ان البهجة لا تتوافق مع اجواء مجتمع خاصم الفرح , وكذلك المنزل الممتلئ بالحزن والمشاكل .
توقفت قليلا لكي ازيح عن زجاج السيارة اكداس الصقيع ثم تابعت الحديث .
شاعر حالم يعشق الهدوء , يعشق الرومانسية , الهدوء والسكينة مفقودة تماماً بوجود زوجة متمردة على كل القيم التي اؤمن بها , عندما اسرق لحظات من الوقت لكي ادون ما تجود به قريحتي تهاجمني بضراوة , يزعجها كثيراً امر اهتمامي بأوراقي , كأنها تمسكني بأحضان عشيقتي , تبخل ان تمنحني لحظات من الخلوة , لسانها يحترف الكلمات الموجعة , تستهين كثيرا بقدراتي الشعرية , لا يروق لها ان اكتب عن الحب , تتهمني بالتصابي والابتعاد عن الكياسة واحترام الذات , مكتبتي خاوية لأنها لا تسمح باقتناء الكتب الادبية , لم تنفع معها كل نصائحي , احتقنت اوردتي وضاقت بي سبل الخروج من دوامتها المهلكة , في هذه الليلة الكئيبة تضايقت كثيراً حتى التجأت الى متاهات هذه الليلة المجنونة طلباً للخلوة , هربت الى احضان الطبيعة المتمردة من امرأة لا تهتم بي ولا تعير اي اهتمام لرغباتي , عسى ان اجد عطفاً في قلب الطبيعة افتقدته في قلب هذه المرأة , عسى ان اتمكن من تدوين ملاحظات تحمل مشروعا لقصيدة جديدة .
قالت : قصتك لا ترتقي الى مصاف الحكايات التي يطوقها المستحيل بمخالبه , انت رجل ويمكنك ترويض هذه الزوجة , وفي حالة عدم استجابتها يمكنك اللجوء الى خيارات اخرى , يمكنك ان تتوافق مع ميولها رغم التضحيات بالكثير من هواياتك , انا ادرك ان الغيرة التي تعاملك بها تنبع من حب كبير , ربما هي لا تعرف كيف تعبر لك عن هذا الحب , الغيرة والغموض تسحق مناخ الوئام ان كان هشاً , طالما هي امرأة شريفة تستحق منك ان تمنحها المزيد من الوقت وممارسة كل المحاولات على ترويضها , امام شرف المرأة تذوب وتتلاشى كل الخلافات مع زوجها , لا شيء اغلى من الشرف , يمكنك ان تخلق الاجواء المناسبة لكي تمارس نشاطك الادبي بعيداً عنها , كذلك يمكنك ان تتوافق مع اهتماماتها على حدود ادراكها . اخيرا اقول لك سيدي , ان البيوت اسرار ولا يوجد بيت بدون مشاكل , ابحث عن الحلول قبل ان تبحث عن النهايات , يجب ان لا تنهزم , احتفظ بالايجابيات وأضف اليها , واكتشف السلبيات وحاول ان تقلل من شأنها , انظر الى نصف القدح المملوء بالماء ولا تهتم بالنصف الفارغ منه , يجب ان نروض انفسنا على تقبل الواقع بروح رياضية .
لقد ابهرتني كلمات هذه السيدة المنهزمة , صدى مفرداتها يرن بمسامعي كنواقيس محذرة , لقد عرت نقاط ضعفي , وأشارت بوضوح الى وهن افكاري , استلهمت منها الكثير من العبر .
وصلنا الى آخر احياء المدينة , طلبت مني الوقوف , بكلمات ودودة صاغتها بلطف لم اعهده من قبل , كلمات وداع تليق بهذه الفسحة الجميلة رغم قسوة الطقس .
قلت : اين تذهبين في هذه الظروف الصعبة , قالت كنت انوي اللجوء الى الضياع ولكنني احسست ان الحياة رائعة لا يمكن ان نضحي بها قرباناً للأشرار , لا يجوز ان نضحي بحياتنا لكي نمنح الحياة لمن لا يستحقونها , لذلك قررت اللجوء الى بيت احدى قريباتي ريثما ارتب اوراقي وأطالب بحقي بكل شجاعة , القانون سيكون الفيصل بيننا .
استدارت سيارتي وعدت بمفردي على تلك الشوارع الحزينة , احاديثها بقيت ترن في اذني وعطرها لا زال يعبث بأنفاسي بنشوة وأحاسيس شاعر لا يملك الحرية على توثيقها بما يليق .

اترك رد