التّعرية وأثرها في أعمال الفنّان العراقي علي البزّاز

منبر العراق الحر :

تندرج أعمال الفنّان علي البزّاز (يشارك حالياً في معرض “الأجانب” في مكتبة أمستردام) في سياق مفهومي، يشتغل عليه، والتي يقدمّها بحمولة ترميزية كبنيات جاذِبة، ولكن، ورغم النيّات المقصودة في هذا الاتّجاه، إلا أنّه لم ينوِ أن يكون المفهوم بديلاً من اشتغاله الجمالي، مُزيحاً هكذا، هيمنة السرد، الذي قد يَحضر في ذهن المتلّقي كنسق مجاور.

ينبني عمل الفنان علي البزّاز وتحضيراته، على مجموعة من المواد والموجودات المُهملة، حيث يجدها مرميّة في الأماكن المتنوّعة؛ بقايا خشب خامّ، أو أبواب وشبابيك قديمة، ألواح وحديد، تعرضّت لفعل الزمن والإهمال.

يعمل على تأهيل ذلك، في وجود جديد مناسب لها، لتكون جزءاً من عمل فنّي، يُشكّل منها وجوداً قائماً بذاته، مشتغلاً على سطوحها بأدوات ملائمة للحكّ والقشط والتحزيز، ومستعملاً مواد طلاء مختلفة وتقنيات متنوّعة، وذلك، لإحداث التأثيرات الموازية لِما هو موجود على السطح، فيكمّل هكذا، ما يريد الفنّان من عمله، ثمّ يقوم بتأطيره بأساليب مختلفة تناسبه وتحتفي به، فينتقل بها من وجود مهمل سابقاً إلى وجود حيوي أنيق.

يشتغلُ الفنّان على الورق أيضاً، ناقلاً إليه تأثيرات أفعال الإهمال والنسيان والصدأ جرّاء استعمال التقنيات الآنفة، والبزّاز، لا يجلب المواد تلك، ويعرضُها كما هي على سجيتها، لإضفاء مفهوم الزمن وتأثيراته فحسب، بل، لتأكيد دلالات متنوّعة اختباراً لإيحاء مفهومي جديد، يُشبِع فضول المُتلقّي ويفعّل فضاءً أوسع، لتأمّل العمل وتعميق قراءته، إذ تبدو رغبة الفنّان في تشيئ العمل ذاته، واضحةً، من أجل الوصول به، ليكون تعبيراً جمالياً خالصاً.

تقنيات متنوعة على الخشب

العمل الفنّي وآلية الترحيل

إنّ آلية الترحيل، ستكون مُناسِبة، لتوصيف اشتغال البزّاز التي يعمل عليها في مشغله متمثّلة في انتشالِ بنية مُعينة من واقعها القائمة به، إلى حالة مغايرة، مضيفاً عليها أسباب كونها بنية جديدة، تحتفظ بكيانها السابق وبالآثار الواضحة عليها من زمن الإهمال، وجعلَها تلتحف لبوساً جديداً، الذي هو أثرٌ آخر. وهذان الفعلان، يجريان اشتغالاً ضمن تأثير الزمن في التجريف والشطب والتجاوز.

وإسوةً بالباب، الذي يعتبر مفهوماً للتقابل والارتحال، يرتكب الفنّان إحالةَ عمله الفنّي الى مشروعٍ للتداخل؛ فهو باستخدامه للمهمل والمتبقي من المواد، إنمّا يعيد هكذا، إلباسها لبوساً مغايراً، باحثاً عن المفهوم الأكثر أصالة فيها، وهو بهذا، يشيّد بحثاً في تقابلات المفهوم مع الشكل، ويميل إلى إحداث توازنٍ في ما بينهما، وكأنّه يلتمس برهاناً على رهانات فكرية، ينشغل في التفكير بها. إلا أنّه، ينتقل بها من نسقٍ إلى آخر، يكتظُّ بتعالقات المادّة.

ولا يتمكّن الفنّان منه، إلا بالإمساك بآلية إعادة التدوير التي تظهر فيها اكتنازاً عن مشروعية، تؤهّلها إلى الخضوع إلى تجريب، فيه من الغنى الكثير.

ولكن، ما الذي عمله الفنّان في مسعاه هذا؟ هذا التساؤل يتطلّب التوضيح بدقّة للإجراءات التي استحدثها:

1. نرى في متن العمل الفني المُنجز، بنيةً قديمة، قد حافظت على وجودها عبر مؤثرات، اكتسبتها صدفةً، في أثناء مرحلتي الإهمال والنسيان.

2. نصادفُ بنية أخرى، قد اندمجت بشكل آخر مع السند، وما يربط بينهما، هو التكنيك الفاعِل في إغناء الأثر القديم، في محاولة مثيرة تدعو للتأمّل في الآثار الناجمة من الحك والتشخيط والإضافة، ذلك الاشتغال الذي أدّى لعمل الإزاحة المتبادلة بين السطحَين، وهذا التجريب المنجز في التشكيل، يتيح الوصول إلى أرضيةّ لخطاب جماليّ، يطرحه الفنّان في مجمل أعماله.

الخطاب الذي تشي به لوحاته ، فيه إجابات واضحة، تمكّنه من تحييد الاعتماد على المفهوم، ومن تقديمه كمشروع نهائي، والمقصود هنا، إنّ البزّاز لم ينتشل المهمل والمنسي كما ذكرت سابقاً، ليقدّمه مثلما هو مرفقاً بنص من حقل إبداعي  آخر (كالأدب أو الفلسفة مثلاً).

وهو على معرفة بأنّ ذلك، إنّما هو انتحال لتجريب سابق له، لكنّه يفكّر في إبداع عمل يمتلك قوّة حضور فنية مكتفية بنفسها، في إثارةٍ لبصر المُتلقي، ما يثير لديه مجموعةً من التساؤلات، لا سيّما وقد انحاز هو في معروضاته إلى الاشتغال على بنيات جاهزة، تمنح نفسها حضوراً بصرياً لافتاً، تجعل منه باحثاً عنها ومقتفياً لها بالذات، ومستعيراً صفاتها بعد تبعات آثار الترك عليها وما قد تراكم على سطحها من تآكل، وصولاً إلى الهيئة الجديدة.

كلّ ذلك يتمُّ عبر فعلٍ مزدوج من التعرية والإضافة واستثمارِ الرغبة بالمحو والتلاشي وأيضاً بالإصرار على الظهور، كبرهان على مفهوم الغريب الذي يستعيره من اشتغالاته الفكريّة مثل شبكة توجيه، تساعده على تصوّر المآل الذي سيؤول إليه العمل الفنّي لاحقاً، عبر ما يتركه التكنيك من الأثر الإرادي على  السطوح، كما يمكن، تتبّع أثر التعالق في البنية الأولى والجديدة، جراء  الخدوش والقشط والاضافات المادية الجديدة، وكأنّ الفنّان، يحتفظ لعمله بالأسرار التي جعلت من الآثار مرجعاً لجهده الجديد.

وهنا يمكن القول إنّ ما بين البنية القديمة للشكل وتلك الجديدة، هو عتبة تشير نحو إمكان التفكير، لفهم العمل المنجز.

أبواب

الغريب… تقنية الوجه والقفا

 عندما نبدأ في إحصاء العلامات التي تتحرّك على السطح ما بين تبقيع وثقوب وفقدان جزء من جسد المادة والتأكسدات الحاصلة بفعل تأثير تقلّبات الجو، إضافة إلى الألوان الأصلية والمكتسبة في تزامنٍ مع مخلّفات الحكّ والإزالة والخدوش والكولاج، يمكننا هنا الوقوف على العتبة التي تجير للمتلقّي من استكشاف أثر التدخّلات القصدية، وبعدها، ملاحقة عمل الفصل ما بين تلك العلامات، ما يُتيح  إمكانية “تقويل” العمل الفني، واكتشاف التعالقات فيه. إنّ البنية الأصلية، لا تمتلك تأويلاً في حد ذاتها، إلا إذا نحن استعنّا بنصّ مجاور من حقل إبداعي آخر كما نوّهنا سابقاً. ولكنّها، بفعل التكنيك الذي اجترحه الفنان وقصديته، فتحَ بابَ التأويل فيها.

أنجز الفنّان البزّاز أعمالاً بتقنية “الوجه والقفا” وهو قصد إرادي منه، (إذ لا يمكن القول بأنّ للعمل وجهاً وقفا) فقد أراد تأكيدَ مفهوم الغريب إبداعياً وجمالياً،  إذ أصبح العمل هكذا، صورةً للتداخل، تتحرّك بشكل دائري، من وإلى، فمآل الوجه الأوّل، هو  المآل ذاته للوجه الثاني، وعليه، يغدو العمل الجديد والقديم في صراع لإثبات وجود، وما بينهما من فضاء (افتراضي، إّن أمكننا الإمساك به بصرياً) هو البؤرة التي تنتظم فيها الأشكال الموضوعة من الفنّان ذاته، في وجود جمالي مكتفٍ بذاته على الرغم من الإضافات وتدخّلاته الخارجية.

لم يتوان على البزّاز (شاعر وكاتب ويشغل بالصحافة) في معرضه الشخصي الأخير في مكتبة أمستردام المركزية بعنوان “الأجانب” عن استعارة الإجراءات التكنيكية في أعماله الأخرى وإدماجها في الأعمال الكرافيكية، والتي أكدت دعماً لوحدة المشهد البصري للمعرض؛ تبدو الأعمال الكرافيكية وقد ابتعد فيها كثيراً عن الإجراءات التقليدية المتبعة في طباعة الكرافيك، وكأنّها صور مقتطعة ومكبّرة من أجزاء مختارة من أعماله الكبيرة.

 
*كريم سعدون: فنان تشكيلي عراقي

اترك رد