منبر العراق الحر :
-سردية تعبيرية من ماضي الطفولة :
*
… ككل صباح و من العادة و طقوسي أخرج من البيت ( حي بوحفص عيسى.. HLM) في حدود الساعة السابعة صباحا و على كتفي أوزار محفظتي المدرسية، فاتجه صوب بيت صديقي الحميم “زيزو” أنادي عليه طارقا باب بيتهم فيخرج لتوّه بدقائق قليلة لنعود مترافقين في الاتجاه المعاكس متوجهين إلى بيت صاحبنا “تيتو عبد الناصر ” حيث يتواجد بيتهم الساحر لمخيّلتي كلما ذهبت إليه و رافقته .. كان بيتهم أشبه بالأسطورة على مقاس عقل الأطفال في ذلك السّن ، البيت كان في الأصل (مبنى رئيسي بطابقين لمحطة القطار) إبّان التواجد الفرنسي في الجزائر .. من أبهى و أجمل -بقايا الإستعمار الفرنسي – العمراني، تعلو مثبتة قريبة من قرميده يافطة مكتوب عليها اسم بلدتنا أو قريتنا ( المسكيانة La Meskiana ) ، لم تُبلى هذه اليافطة و بقت كأنها ثبّت منذ ساعات !
يرافقنا ( تيتو) و نتوجه باتجاه الشارع الذي يسكن فيه صديقنا “عبد المالك) و هو جار لصديقنا الآخر الحميم ( يحيى) ابن عمّي مبروك الجزار.
.. و هكذا بكلّ حميمية و براءة نتوجه في موكب الأصدقاء النجباء بشهادة سكان الحي و المدينة باتجاه مؤسسة العلامة “عبد الحميد بن باديس” المتواجدة في ( الفيلاج Le village المدينة العتيقة ).
-كان بعضهم لما يرانا في عُصبة تسعى باتجاه هدفها يحيينا ببشاشة و يمزح معنا قائلا لنا أثناء استوقافه لنا هنيهة : ( ربي يحفظكم يا فريق الأذكياء الخطير … ههههههة!) -كانت كل مسافة الطريق و المسالك المؤدية للمتوسطة لا نشعر بها بحكم بعدها قليلا باعتبار سننا و لأننا نمضيِّي وقت المسير و التقدّم في المزاح و الضحك و النقاشات العامة و الشغب المقتصر بيننا حتى نصل مؤسستنا التعليمية ..
– كانت من جملة عاداتنا الصباحية و طقوسنا هو اختراقنا الشارع الرئيس العتيق و هو الشارع التجاري الرئيسي لوسط المدينة و أهم طقس نقوم به هو التوقف بالقرب من الرًصيف عند بائع ( الفول ) المتجوّل/الثابت في آن المدعو “عمّار كلاش” و أحيانا يحلّ محلّه أخ عمّي الطّيب رحمة الله و هو الأخ الأصغر المدعو “عمّار قمّيني” ، حيث يركن عربته الخاصة الحمّالة لقِدر عملاق شبيه بالتنّور المحتوي على الفول الموضوع على موقد يشتغل على الغاز الطبيعي (طابونة) . هكذا لانتظار الفطور نصطف وراء الزبائن أطفالا و رجالا من مختلف الأعمار ننتظر دورنا كي نشتري بدورنا الفول مع الخبز كفطور صباحي إضافي بعد فطور البيت و نتناوله في عين المكان وقوفا كما الجميع بالقرب من البائع و عربته .. ذلك الفول اللذيذ و مرقته الساخنة أو طعم الكمّون الذي يزيده لذة مع قليل من الهريسة الشرقية .. ثم نكمل زحفنا نحو مؤسسة التعليم و غالبا ما يسارع أو يتسابق أحدنا قبل الانصراف في دفع الحساب نيابة عن الجميع.
– نمضي و نكمل سيرنا في الوقت المناسب نحو المتوسطة فرحين ، ضاحكين؟ فكهين..
و ذات مرّة تشبه بعض المرات في حدوثها من خلال توارد طقوس مروري مع صحبة طفولتي ؛ أن التقيتُ بأبي كان مارّا للدخول إلى مطعم صديقه الوفي الدائم ” عمَي الطيب المعافي”.
فهمّ والدي كعادته متجها نحوي، تقدمت إليه بخطوة ساعيا و لكن كان تقدّم أبي مهولا ؛ كأنه يجري نحوي لعظمة خطواته و مشيته ، فصبّح عليّ مسلّماً و سألني عن أحوالي بكل بشاشة و مزاح تزامنا مع الحركة المعتادة التي لا ينساها أبدًا لما تدفعنا الصدف بالالتقاء ببعضنا بعد غياب أيام أو أسابيع أحيانا .. أخذ والدي مُفتشاً يقوم بتحريك يده باتجاه جيوب تنورته باحثا عن محفظة نقوده المعدنية و هو يمازحني .. كان يهشّ بأنامله الكبيرة داخل المحفظة الجلدية قطعه النقدية المعدنية ليمنحني مصروفي ، كنت أسمع صوت اصطكاك القطع النقدية فيما بينها كأنها أهازيج أو زغاريد و هي تتلاطم بين أنامل أبي و كأنها تغنّي محتفلة بانتقال ملكيتها منه إليّ و أنا خير الوارثين ! … أقبض ما أهدانيِهُ أبي من نقود و أمضي و رفقتي إلى حيث يتواجد محرابنا التعليمي( عبد الحميد بن باديس ) .. كان حضوره المفاجئ و التقائه بي و حركة منحه لي للمصروف جعلتي أسعد طفل في الكون رغم كل خسارات طفولتي في ذلك العمر ..
-لهذا أذكر في هذه الصبيحة المميزة حيث كان صحبتي بإطراء شديد يمازحوني بُعيد التقائي بوالدي ، هذا يقول لي مادحا والدي و علامات الافتخار و الاعتزاز به تطبع ملاح وجهي : ( محمدّ الصّالح النمّر الtigre ، الأسد Le lion ) كناية على مهابته و صورته المتداولة في المدينة، و استنادا للأساطير تلك التي كنت أحكيها بخيالي الواسع عن بطولاته و قوته الخارقة! .. كنتُ أبحث عن بطل في حياتي و لم أجد شخصا مناسبا لتقمص هذا الدور عدا أبي الذي كنتُ أرى يليق به هذا الدور و اللقب في مخيلتي كطفل .
-لما ابتعدنا و الفرحة لا تسعني فرحا و اعتزازا به و فوق كل هذا الفعل كنت جدّ متأثرا بحضوره في ذلك الصباح و أنا رفقة صحبتي ، كان التقاءه بي تشريف عظيم أمامهم كأن بتلك الحادثة كانت حجة لي في ( تسجيل حضوره في حياتي في هذا الصباح ، كون الغياب كان فظيعا !) و تأكيده بأنّ لي نسب يحبّني و انحدر منه مباشرة !.
– قلت لهم عِبارةً كانت شبيهة بالطرفة، جعلتهم ينفجرون ضحكا و أنا أوّلهم لما ناديتُ : ( علابالكم بلّي بابا ايكون لي !) معناها “هل تدرون أنّ والدي هو من أهلي ؟) . كانوا يضحكون دون انقطاع لغرابتها و لِلَطافتها و لرمزيتها ؛ إلا أنهم و أنا منهم لم نكن نعلم في ذلك السّن أنّ عبارتي هذا قالها ( نوح عليه السلام قبلي !) .
-وقتها لم انتبه لها في القرآن و أنا تلميذ في الإكمالية، و بعد الأربعين من عمري عثرت على مرادفها القرآني وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أهلي …)
وقتها وجدوا ما نطقت به هو صعود إلى قمة الغرور و الافتخار الذي لم يعصمني من طوفان ضحكاتهم تلك ، كنتُ سريالي التعبير كوني كنت أبرّر و أُثبت نسبي و علاقتي بهذا الرجل الرمز المغوار البطل المُهاب !…
كادوا وقتها في غمرة من الضحك و القهقهة البريئة مما نطقت به فيشاكسوني كلاما قائلين :
“أجل! أجلْ! أفي ذلك شكّ يا مجنوننا! إِنَّهُ بالطبع مِنْ أهلِك و إِنَّهُ محمد -الصالح – النّمر، الأسد ، فلا تشكّنّ في نسبك إليه ، إنّا نعِظُك يا خِضر أَن تَكُونَ مِنَ الجاحدين أو المُشكّكين !”.
**
-كلمة ً لم أقلها اعتباطا أو جزافا و إنما هي أتتني عن وعي العقل الباطن ، و ذلك للعلاقة الشائكة بيني و بين والدي بحكم أنّي كنت لا أعيش معه و لم أكن تحت كنفه مباشرة بصورة دائمة .
-( ، هل تدرون أن والدي هو من أهلي !) ..
نعم أنا قطعة منه و هو من أهلي ! كنت أردّد ذلك طول حياتي …!
-الطريف و الجميل في هكذا قصة من طفولتي تلك التلقائية و تلك البراءة و تلك الإيجابية كلها مجتمعة فينا نحن تلك العُصبة و أنا أحاول تقديم الدليل على صلة الرحم العظيمة و القريبة بيني و بين والدي !
تضارب المزاج بالضحك بيننا و كانت -استجابتهم تلك بكل أجوائها الساذجة (حياة) صافية آمنة ، و لم يقم أحدهم بوخزي لتثبيط عزيمتي ، أو تعمّد التنغيص عليّ بالتنقيب مجهريا -كما يفعله عالم الكبار – عن زلّة أو هفوة بدت منّي (لا إراديا ) ، بل كانت لحظات لا تنسَ أبدًا سبقت دخولنا الصفّ و استئناف الدروس الصباحية …
*) سردية واقعية لشذرة من شذرات طفولتي البسيطة ، من القرن الماضي.
***
* باريس الكُبرى جنوبا
* ٧/٥/٢٣