منبر العراق الحر :
كم كانت تحبّ السفر وتكره الرحيل، تسافر من بلد إلى آخر والهمّ مسافر معها، إقامة دائمة في الروح.
لم تكن تسافر لغاية ما، بل تسافر من أجل السفر، تشتاق إلى الوحدة واتّحادٍ مع الذات لا يشوبه مقاطعة أو تدخّل من أحد.
وهناك الكثير مثلها، مسافرون في القاعات الكبرى للمطارات، لا يضحكون ولا يبكون، إنّهم مسافرون فقط.
كان عليها اجتياز الدروب القديمة لتصل إلى الضفّة الأخرى، وخلفها حبيب لم تترك معه باباً للصلح إلّا ومضت فيه، لكنّه كان فارساً بلا أخلاق.
كانت تعلم أنّ الثأر ليس من شيم العشّاق، نقطة وضعتها آخر السطر، هي وداع وفراق أخير.
في دفتر مذكّراتها -الذي حملته حقيبة سفرها- وثّقت كلّ كلمات العشق التي سمعتها ممّن تحبّ، وابتسامات في لحظات صفاء، وأحضاناً بحجم المجرّة، وصوراً جميلة كانت قد جمعتهما معاً.
كان من الصعب عليها أن تضع جزءاً من روحها في حقيبة، شعرت أنّه موتها الأكبر، وأنّ سعادة سُحِبَتْ كبساطٍ من تحت قدميْها، ليس أمامها الآن سوى الصبر، حتّى ينطوي دهر الفراق المذلّ.
في ذاكرتها ألف حكاية همس بها العشّاق دفنتها تلك المذكّرات التي رسمت لها فراقاً لحبّ أوّل في حياتها.
أصبح الفقدان حالة ثابتة في فقدان فواصل تلك الذاكرة المثقلة بالهموم.
جرّت حقيبتها مع أنين ذلك القلب، واتّجهت إلى صالة المغادرين وهي تتمتم بكلمات حزن بتساؤل موجِع.. (هل حقّاً أنّ كلّ مَن في الأرض خائنون؟).
وصلت إلى البيت ودموعها تسبقها، شعرت بوعكة صحيّة وصداع كاد يقتلع منها عظام رأسها، فتحت حقيبتها، أصابها الدهشة والفزع حين وجدت أن تلك الحقيبة ليست لها، لكنّها كانت تشبه حقيبتها حتّى في بعض محتوياتها.. ( مذكّرات بأوجاع، عطر يشبه عطرها، صور كثيرة بلا إطار، أوراق وحروف مبعثرة وأقلام كثيرة، ومعجون أسنان ذاته الذي تستخدمه وقد نفد نصفه، أغلقت الحقيبة وعادت مسرعة إلى قسم المفقودات في المطار، رأت رجلاً وسيما عيناه خضراوان يقف هناك يمسك بحقيبتها، أخبرته أنّ تلك حقيبتها، وأخبرها –بالمقابل- أنّ تلك الحقيبة التي بيدها حقيبته، اعتذرت منه بشدّة وأخبرته أنّ حقيبتها تشبه حقيبته حتّى بأوجاعها، نظر إليها مبتسماً ابتسامة رقيقة على شفتيه ونظراته كأنّها حقل سنابل فتيّة خضراء، طلبت منه قبول اعتذارها مع دعوته لاحتساء فنجان قهوة تقدّمه له في كافتريا المطار، جلسا معاً يتبادلان أطراف الحديث، شعرت أنّها تعرفه منذ بداية الخليقة، تأريخ طويل كان يجمعهما معاً، رفع كفّه، لامست أنامله وجهها الجميل، كان يتفحّص ملامحها بدقّة متناهية كالضرير، همس لها:
-هل تعلمين؟.. ليست المأساة في اختلاط الحقائب وتشابه الأوجاع.. بل في هذا العطر الذي كان يتبعني في كلّ وقت من حياتي.. وكلّما هممت باستنشاقه يدخل آخر ليس منّي.. سأدوّن عنواناً في أوّل سطر لمذكّرتي الجديدة، سيكون..
(أنتِ هو عطري).
منى الصرّاف / العراق