منبر العراق الحر :
في الدورة 13 من مهرجان مالمو للسينما العربية في السويد، عُرض الفيلم الفلسطيني “حمى البحر المتوسط” للمخرجة مها الحاج، كما شارك في الدورة نفسها الفيلم المغربي “ملكات” للمخرجة ياسمين بنكيران، وسبق أن شارك الفيلمان للمرة الأولى في الدورة الماضية من مهرجان “كان”.
ومع اختلاف الأسلوب، يتقاطع الفيلمان في فكرة الهروب، الهروب كفعل حركي أو الهروب كفكرة فلسفية مرجعها “الاكتئاب”.
ومثلما تتصّف الكآبة بأشكالٍ متعددة ومركبة قد تصيب الأخيار والأشرار، تأتي السعادة على النقيض منها كلحظاتٍ معدودةٍ أو شعور سديمي بالرضا والسكينة.
تتمركز فلسفة الهروب والانعتاق من السوداوية في الفيلم الأول الذي يحكي عن وليد، الذي يلعب دوره عامر حليحل، وهو كاتب يعيش في حيفا ويمارس في صمت طقوس الواجبات المنزلية بحكم انشغال زوجته الممرضة بدوامها الطويل.
وليد هو زوج وأب لطفل وحيد يحاول استدعاء ملكة الكتابة، لكنّ الكآبة تطفو فوق كل فكرة حرة وتولّد الشعور باللاجدوى، بالعدم، بالانطواء، بالتباس علاقته مع المحيط القريب.
تمرّ تفاصيل وليد بصمت. كل شيء يبدو هادئاً بارداً، بلا شغف، وبلا ملامح مرسومة تستدعي الصحو لأجلها في اليوم التالي. كل شيء داخل زمن وليد والكيان المعبر عنه مؤلف من شتى الفرادات التي يجمعها في رأسه حيناً وينقسم في داخلها أحياناً.
تظهر شخصية جلال، الجار الجديد (أشرف فرح)، بعد مرور وقت من عالم وليد الذي لا يتنامى ولا يتناقص. أما عالم جلال فعالم صاخب، أصوات كلاب تعوي، أغان تصدح لجورج وسوف وملحم بركات ووظيفة غامضة.
مدخل التعارف
من رجل أربعيني منطو خجول وهادئ، ينقلنا الفيلم إلى نقيضه. رجل يعيش حياته كاستعراض بالسفه والاحتيال والبلادة وزوبعة محملة في ثناياها أسرار مخيفة.
حمل نفور وليد من جلال وعالمه شيئاً من التحقير والإعجاب الخفي في آن واحد، كأنّ فضول الأول ككاتب وروائي يدفعه إلى التقرب عمداً من هذا العالم.
ومع تتابع الأحداث، يلتقي الرجلان في المنتصف كمرآة عاكسة. أما الفرق فهو في اصطياد لحظة الهروب من الواقع، فيختار جلال الرأس بينما يختار وليد الذيل.
هكذا، يرى وليد أن الموت هو الحل وأن جاره هو الشخصية المناسبة لإنهاء حياته، فيما هناك خدش عميق وراء صخب جلال لا يظهر إلا في الهوامش.
عيناه تعرضان شريط الواقع على شاشة في رأسه وهو يبصر أن نهايته قريبة، يبصرها ويقرأها بوعي ويقذف بالحقيقة كي تذهب نحو السراب، ثم يستيقظ في اليوم التالي بالصخب ذاته وكأن شيئاً لم يكن.
في الوقت ذاته يكتشف جلال نيّات جاره الحقيقية، وأن بقاءه قريباً منه طوال الفترة الماضية لم تكن سوى لهدف واحد وهو الموت بطريقة درامية تمنحه ثوب البطولة والخلود في ما بعد.
ومن ثم تصل التراشقات مداها بين الاثنين حول مفهوم من هو المكتئب ومن يستحق العيش، فيحتقر جلال وليد كونه استغل الصداقة لأهداف أنانية، ولم ير فيها سوى أنه أمام قاتل مأجور، وأن طلب الفعل في ذاته هو جبن وخذلان.
وليد لا يريد أن يمحو فلسطين كذاكرة وأرض وشعب على الخريطة، أما جلال فوصل به البؤس بعدم الإيمان بالطوباوية.
ورغم التناقضات، يتقاطع الاثنان في اليأس من الحياة المنشودة، وتستمر المحاولات في تصاعدٍ نحو ترسيخ فكرة قطع الحبل السري بين الحياة والموت.
وفي رحلة صيد ليلية، يرضخ جلال لطلب وليد. يرفع السلاح نحوه، ثم تحدث الطلقة المدوية.
يفتح وليد عينيه ليكتشف أنه لم ينل القتل النبيل كما تخيله في روايته التي لم تكتمل، وأن جلال قرر الانتحار دون سابق إنذار، فيُحمل جلال على الأكتاف في مشهد جنائزي حالم مع ترنيمة مريم البكر.
يعود الكاتب البائس إلى روتينه ووحدته حتى يلتقي بالجار الجديد “طبيب تخدير”. تشتعل الفكرة من جديد وترتسم السعادة بغتة على ملامحه وهو يتخيل نهاية حياته بشكل أنيق.
ملكات
أما فيلم “ملكات”، وهو المشارك في مسابقة الأفلام الروائية في مهرجان مالمو، فهو يرسم الخط الحركي الواضح والمستمر لشكل الهروب في تسلسل الأحداث.
الصبغة الأميركية تُلاحق الفيلم من أول مشهد حتى نهايته، كذلك الحبكة التي تربط بين ثلاث شخصيات في مراحل عمرية متفاوتة.
الثلاث يحلمن بل يهربن من قيد ما بحثاً عن النجاة، وتستمر عملية المطاردة بين الشرطة والفتيات التي تقود إحداهن الشاحنة بين جبال الأطلس حتى جنوب المغرب.
الشخصية الرئيسة (نسرين الراضي) امرأة هاربة من السجن، تأخذ ابنتها المراهقة إيناس.
وتحت تهديد السلاح، تجبر أسماء (نسرين بنشارة) وهي فتاة تعمل في ميكانيك السيارات على قيادة الشاحنة للانطلاق بهما بعيداً.
على عكس الفيلم الأول، لا ترتدي الشخصية ثوب الوداعة لتمارس الاحتيال، بل تظهر منذ اللحظة الأولى بعنفها وعدوانيتها وفظاظتها وإصرارها على نيل كل ما تريد بالقوة وتحت أي وسيلة متاحة، حتى لو استدعى الأمر استغلال طفلتها في مواقف غير أخلاقية.
في الجهة الموازية، نرى أسماء، الزوجة الشابة وغير السعيدة في زواجها، الهادئة والراضخة لتبعية الأم والمتعاطفة مع طفلتها الحالمة المهووسة بخرافة (عائشة القنديشة) المرتبطة بالسحر، ولا تكف عن رسم قصص مستوحاة من تلك الأسطورة.
بعد ذلك، تحدث نقطة التحول لدى أسماء حين تلحظ وجود زوجها قادماً مع الشرطة، فتتحول من تابعة إلى قائدة الهرب في هذه المسيرة الطويلة وسط الصحراء.
الشخصية المنطوية على نفسها والمستمرة في مراقبة الأشياء والشخوص في صمت هي أيضاً تهرب من واقعها نحو طوق نجاة عن طريق التأمل والتحليل.
انصهرت أسماء مع فكرة الهرب بعدما كانت مكبلة بالخوف والتهديد والذعر.
وعلى الرغم من النفس الهوليوودي المتمثل في أفلام المطاردات والذي نزع عن الفيلم أصالته، تبقى فكرة الثنائيات المتضادة والملتحمة هي فكرة جاذبة ومشوقة في السينما عموماً.

أسماء ونسرين، كما وليد وجلال، ثنائيات الصخب والهدوء، ثنائيات الحلم الضائع، ثنائيات الشجاعة والجبن في الفعل، ثنائيات الاكتئاب والهروب…
الأربعة يتدثرون بمعطف المجهول، الأربعة مرايا عاكسة لأرواح بعضهم بعضاً رغم المسافات النفسية وتفاوت الخلفية البيئية، تغشى أعينهم بالغمام الكثيف فتتحسس الضوء لكنها لا تلتقطه، ومن أجل هذا يستمر الهروب حتى وإن تكبلت الأقدام، فتلك هي ساعة الانتحار اليومية الصامتة.
المصدر: مالمو- النهار العربي
منبر العراق الحر منبر العراق الحر