(مفاجأة أخ) …قصه قصيرة…نهاد عبد جودة

منبر العراق الحر :
تذوق صابر مرارة العيش بعد رحيل والده المبكر ، تحمل مسؤولية تربية اخوانه الثلاثة القاصرين ووالدته المريضة ، والدته التي ارهقته كثيرا واستنزفت كل اماكنياته للمراجعة الى الاطباء والمستشفيات ، بعد وفاة والدته أصبح هو الأب والأم والمربي والناصح لأخوانه ، مارس كل المهن وتحمل مصاعب الزمن ، ضحى بمستقبله قربانا لهم ، مرت الايام والليالي وكبر الاخوة ، أكملوا دراستهم وتمكنوا من الزواج والاستقرار في بيوت جميلة ، بقى صابر يسكن بيت العائلة العتيق مع زوجته وأطفاله الاربعة ، أخيرا جاء زمن الكراهية ونكران الجميل ، قسوة وتمرد اخوانه بدوافع من زوجاتهم الحقودات ، كل هذه الخلافات بسبب بيت العائلة الذي يسكنه صابر ، خلاف مستعر ترك ظلاله المدمرة فأحرق روابط الاخوة الحميمة وخلق جفوة مؤلمة بينهم , أرث العائله الوحيد جعل كل واحد منهم يدعي انه صاحب الحق بامتلاكه ، علما أن اخوانه لديهم امكانيات مادية جيدة ووظائف محترمة توفر لهم العيش الرغيد ويملكون بيوت راقية ، أما صابر الاخ الاكبر الذي ضحى بكل شيء من اجلهم لايملك اي شيء ، تنكروا له بكل ماقام به من اجلهم , لم تنفع الوساطة التي قام بها اهل الحي , القوا اغراضه الى الشارع وعندما اعترض على ذلك ضربه أحدهم أمام الناس ، مما دعا العقلاء للتدخل وفض النزاع وإقناع الاخوه الاعداء على اللجوء الى المحكمة لحل الخلاف , خولت المحكمه لجنه متخصصة لتقييم ثمن المنزل وللأسف تمكنوا من اعطاء رشوه لأحد افراد اللجنة لكي يرفع ثمن المنزل الى مبلغ تعجيزي ، أضطر صابر على الموافقة بحكم ظروفه القاسية , لجأ مضطرا الى رجل مرابي لكي يقترض المبلغ الضخم ، طلب المرابي الجشع ارباحا عاليه والزمه بتسديد كامل المبلغ مع ارباحه على اقساط شهرية مرهقة , بقي صابر يعاني شظف العيش والفقر المدقع بعد أن سدد قيمة الدار لهم , مرضه الذي اقعده عن العمل زاد الامور سوءا وتعقيدا , انهارت حصن الصبر أمام عينيه ، بكى من قهر هذه الحياة التي اذلته كثيرا , تعودت مسامعه على نشيج وتنهدات زوجته المسكينة ومدامع عيون اطفاله ، أصبح مجبرا على البحث عن منافذ اخرى للخلاص من هذا الوضع المزري , توصل أخيرا الى آخر الحلول وهو بيع المنزل وتسديد القرض للمرابي الذي تضاعف بشكل مقلق يهدد حياته ومستقبل اطفاله ، كان صمت زوجته دليلا على الموافقة على مضض , في اليوم الثاني عرض بيته للبيع وذهب للبحث عن دار للإيجار في أحد الاحياء بإطراف المدينة يتناسب مع امكانياته البائسة في حي يطلق عليه حي (التنك) , منازل ذلك الحي انتشرت بصوره عشوائية بدون موافقة او تصريح يجيز لهم السكن ، لجأ اليه الفقراء والمشردين بعد ان عجزوا عن دفع الايجارات الغالية في المدينة , منازل متهرئة خاوية ، بناء من الطين والصفائح المعدنية التي كانت تستعمل لحفظ الزيوت ، سقوفها من سعف النخيل والبردي والقصب ، تحيطها بحيرة من المياه الاسنة وأكوام من الازبال ملقاة على كل الاطراف , عثر على منزل من تلك الخرائب اشبه بملجأ مهجور مشهده يبعث على الغثيان والتقزز تنبعث من داخله روائح كريهة , اضطر ان يتفق مع صاحب تلك الخربة على الايجار , بعد اربعة ايام تم بيع منزله واستلم ثمنه وتعهد بأخلاء الدار خلال خمسة ايام ، تلك الليلة جافاه النوم ، تمكن من عد النقود عدة مرات هو وزوجته الى ان استسلما للرقاد منهكين على امل تسديد الديون في صباح اليوم التالي للمرابي , بعد مرور ساعة سمع صابر صوت مريب حول الدار فنهض ليستطلع المكان ومعرفة مايحصل حول بيته ففتح الباب فتفاجأ برجلين ملثمين يقدح الشرر من عينيهما ، ضربه احدهما على رأسه ولم يقوى على المقاومة بسبب مرضه , سحبوه ورجليه تخطان على الارض كالحبال البالية الى داخل الدار ، هذا المشهد أثار الرعب في قلب زوجته واطفاله , بدأت زوجته بالصراخ مما أضطر احدهما على ضربها على وجهها ثم امرها أن تدخل مع اطفالها الى احدى الغرف وأن تلتزم الصمت وإلا ستكون هي من جنت على نفسها .
اين النقود .
قال صابر اي نقود ؟ ، ضربه اللص قائلا : لا تحاذق معنا نحن نعرف كل شيء , توسل بهما وشكى لهما اسباب بيع الدار وقسوة الظروف ، لم ينفع الكلام مع قلوب انتهجت الاجرام وشحت بها الرحمة وليس أمامهم خيارات اخرى سوى سرقة النقود حتى وأن كان الطريق على جثة صابر , استمر الضرب وهو يتوجع من الألم , أدرك ان لافائدة من التوسلات وإلا سيموت من قسوة الضرب ، نهض ليجلب النقود وفي هذه الاثناء هزت الجميع صيحة رهيبة مدوية ارعبت اللصين انطلقت من زوجة صابر وهي تحمل مسدس تصوبه نحوهما بكل تجلد ومقدرة , هذا الموقف استنهض مابقي في جسد صابر من قوة ، قفز ثم مسك بعنق احدهما ولكن الاخر ضرب صابر بسكين حاد اسقطه ارضا مما ثار جنون المرأة لرؤية زوجها يسبح ببركة من الدم ، أطلقت النار عليهما وقتلتهما في الحال ثم بدأت تزغرد وتصرخ بأعلى صوتها وتطلق النار في الهواء , تجمع الناس في بيت صابر لمعرفة سبب الضجة حيث ذهلوا برؤية جثتين هامدتين ورجل يلوج بنفسه من الالم ملطخ بدمائه وامرأة منتصبة كالطود مفتخرة بانجاز كبير أنقذ كرامة العائلة , طلب مختار المحلة الذي حضر مع الاخرين رفع اللثام عن وجهيهما ، رفعوا لثام الاول حتى تعالت الاصوات قائلين هذا فلان من أشر خلق الله أنه لص خطير سجن عدة مرات بسبب السرقات والاعتداء على الناس ، رفعوا لثام الاخر ، كانت صدمة مروعة للجميع ، ساد الصمت إلا من نظرات شاردة حائرة من شدة المفاجأة ، اللص الثاني شقيق صابر الاصغر ، تركزت الانظار على وجه صابر لمعرفة ردة فعله وكيف يعبر عن صدمته بفقد اخيه ، كان يئن من الم الجرح البليغ وعيناه تطوفان الوجوه المذعورة ، ينظر الى جثة اخيه المضرجة بالدم والى زوجته المتباهية بقتله وإنقاذ عائلتها , نهض صابر بمساندة أحد الرجال ثم اقترب من زوجته ، قبلها على جبينها وأخذ المسدس منها ، مسحه بقطعة قماش وبقى ممسكا به قائلا لها اهدئي ولاتخافي ، أنا الذي قتلتهما ، ثم جثى بجوار جثة اخيه . نظر في عينيه الجامدتين طويلا ودموعه تسيل على لحيته مخاطبا اياه الم تكتفوا بعذابي وتشردي ومناصبتي الكراهية لا لشيء إلا اندفاعا من احقاد زوجاتكم ، لن تكتفوا برؤيتي اتخبط في وحل الضياع والحيرة ، تآزرتم على اذلالي وذبح النهار في عيون أطفالي ، القيتم بي في متاهات لاأقوى على مواجهتها بعد أخذ النقود مني , أنا أحمل لكم كل الحب ولم يتسلل الحقد يوما الى قلبي تجاهكم ، هاهي الاقدار ختمت احزاني بهذه الفاجعة بفقدك بهذه الطريقه الشنيعة وفي منزلي , ليتني مت قبل هذا اليوم ثم انكفى عليه يقبله ، بكاه بحرقة حتى تدخل البعض للتخفيف من المه , مسح دموعه الغزيرة بكم ردائه ثم بدأ يخاطب جثة اخيه ، من سنن الحياة يااخي أن تترحم الناس على الميت ، كم يؤلمني أن تتشفى بك الناس وتنصب عليك لعناتهم كالمطر ، لقد حصدت كراهية الجميع ولا أملك القدرة على تغيير افكارهم , أنا اعزي نفسي بفقدك مستحضرا لحظات طفولتك عندما كنت أحملك على اكتافي واشتري لك الحلوى ، بذلت قصارى جهدي بعمل شاق وضحيت بمستقبلي من اجلكم ، جئت اليوم لكي تشكرني على انجازاتي وتقبلني قبلة الاخ الوفي التي حرمتني منها الحياة ، سامحك الله يااخي , يدك التي قبلتها وأنت صغير تصافح لص آثم لكي تقتلني ، لم تؤثر بكم وصية أمي عندما اوصتكم بي خيرا وهي على وسادة الموت ، لم تنفع معكم كل نصائح الناس الطيبين ، لم يحد الدين من كراهيتكم لي . بعدها نهض بحالة منكسرة ثم توجه للحاضرين قائلا : أنا أقدر تعاطفكم مع مصيبتي راجيا عدم الوشاية بزوجتي فاعلموا جميعا أنا من قتلت دفاعا عن النفس ، ماقامت به هذه المرأة من الشجاعة يعجز الكثيرون عن انجازه . تعالت اصوات الجميع بالقبول والترحيب بكل ماقال .
تم القاء القبض عليه ، مقيد اليدين مع الشرطة الى المستشفى مع الجثتين .
في يوم حزين انتقلت زوجته واطفاله الى البيت الذي استأجره في حي التنك ، تلك هي قبور الاحياء التي تظللها اشباح الموت وتزكمها روائح العدم .
بقلم نهاد عبد جودة

اترك رد