منبر العراق الحر :
انحنى أحمد لالتقاط قطعة نقود سقطت من يده بين المارة من الناس في ذلك الشارع الذي يضج بصخب المتبضعين وقهقهات المتربصين وآهات المتسولين ، تعذر عليه ذلك مما اضطر للجلوس رافعا بدنه بقدميه التي أتاحت لركبتيه حرية الحركة كي يمتد بجذعه وعيناه تفتشان بين أقدام المارة ، أرجل وسيقان عارية لا ترى ظلا لها على الأرض بسبب السقوف العالية التي حجبت أشعة الشمس عن المحلات الملتصقة بعضها ببعض في شارع ضيق ومعروف من أسواق العشار يسمى بـ (حنا الشيخ) ، سوق تكثر فيه الفروع الضيقة المكتظة بدكاكين تفوح منها رائحة العطور الخليجية والتوابل الهندية ، واضح أن للهنود بصمات قديمة في معالم مدينة البصرة التي لا تبصر بمن يحوم حولها أو يلج بلا استحياء في إحيائها ، بضائع هندية وأخرى أجنبية ، تلفظها بواخر يملأ صدى أبواقها فضاء المدينة الملتهب بنيران حقول نفط الرميلة ونفط الشعيبة مع حرارة جوٍ ملبدٍ بأنفاس الفقراء وزفير ندي بشهقات شط العرب وجداوله التي تسيد عليها نهر بويب اثر قصيدة خالدة لبدر شاكر السياب . الكثير من مطاعم ومطابخ بيوت تلك المدينة اعتادت مزج أكلاتها بالفلفل الحار رغم كل هذه الحرارة .
استقام أحمد بجذعه بعد أن تعثر حظه في الحصول على مبتغاه ، يتوقف بين الحين والآخر أمام هذا المحل أو ذاك ، قمصان وسراويل ، حقائب وأحزمة ، أحذية معلقة وملابس نساء تكشف عن ستر هياكلها المصنوعة من شمع بلا شموع ، يشيح بوجهه عنها بعد أن تعلم من خدر أمه وأخواته ما يسدل ستار الجفون في عالم مدينة يسكنها الجنون ، ما أن عبر إلى الجهة الأخرى حتى التقت عيناه بعيني فتاة جميلة ، باغتته بكلام جارح بعد أن قطبت حاجبيها تشير لهما أن يلتقيا كالتقاء سيفين في وادي معركة لا رابح فيها ولا خاسر إلا من سرقت قلبه تلك العيون ، وميض عينيها وبياض جبهتها وحمرة خدها ساهم كثيرا بافتراق هذين السيفين حتى كأنهما لا يتلاقيان أبدا …
-لماذا لم تفِ بوعدك وتأتي لمقابلتي لتجعلني حائرة ، تسمرت قدماي على أسفلت ذلك الرصيف الذي لم يتورع صانعيه بما كسبت أيديهم من سرقة المال العام ، وهج الحر اخترق باطن قدمي قبل أطرافها ، إلى هذا الحد أنت قاسٍ وماكر يا محمود ، إنك لا تستحق قلبي الذي شغله حبك حتى امتلأ منه الخافقين .
صمت برهة بعد أن أصابه الذهول ، فهو لم يسبق له أن عرفها ولم يلتق بها أبدا ، لكنه استدرك في الحال قائلا لها :
– عفوا أيتها الأميرة ، لعل الأمر اختلط عليك فانا لست محمود إنما أنا أحمد ومن أجل أن لا تحزني أو تحتاري أقول لك : إن محمود أخي الذي يكبرني بثوان ، إننا توأمان متشابهان في كل شيء ، ولعل أمر ما منعه من الحضور فهو لم ولن يفعل ذلك أبدا ومع هذا تقبلي اعتذاري نيابة عنه وسأسوى الأمر بينكما .
أحمد ومحمود توأمان ، يتعذر حتى على أمهما أن تفرق بينهما مما تضطر أحيانا لوضع علامة فارقة على أحدهما كي تميزه عن الآخر ، ما يحدث لمحمود يتحسسه أحمد فشعور أحدهما بالألم أو الحزن ينتقل فورا للآخر ، يضحكان ، يبكيان ويقلقان سوية وإن كان مصدر القلق يطول أحدهما ، شعور ينتاب الكثير منا وإن لم نكن كمثليهما ، وألا كيف للأم أن تشعر بابنها والأب يتحسس ما يصيب ابنه من نكبة أو وجع ، هناك عامل خفي بين أبناء البشر لا يشبه الغريزة بشيء وإن كان يلتقي معها في الإحساس ، ما أشبهنا بعينين امتزجا كأنهما عين واحدة تدمع أحدهما إن دمعت الأخرى ولن ترى إلا صورة واحدة للشيء الواحد ، وإذنان كأنهما إذن واحدة ، يختل التوازن إن أصاب احدهما وقرا ، رغم المسافات بينهما ، لاشك ولا بد من إن هناك من معامل للارتباط بينهما .
عندما كبرا أحمد ومحمود حدثت لهما مقالب كثيرة اثر هذا التشابه الدقيق ولعل أغربها : استطاعا بوجود هذا التشابه أن يتحايلا في الامتحان الوزاري بأن يقسما المناهج بينهما ، فالعربي والانكليزي والأحياء تبنى دراستها أحمد أما الفيزياء والرياضيات والكيمياء فكان من نصيب محمود ثم أديا الامتحان باسم أحمد ليحقق معدلا عاليا ثم كررا الأمر في السنة القادمة باسم محمود فنال معدلا كمثل أخيه ومن ثم قبلا في كلية العلوم جامعة البصرة ليختص أحمد في الفيزياء ومحمود في الرياضيات والفارق بينهما سنة واحدة .
عندما استمع أحمد لشرح الأستاذ حول انشطار شعاع الشمس إلى شعاعين ، موضحا فيما إذا تعرض أحد الشعاعين لحالةٍ ما فان الشعاع الآخر المنشطر عنه يتأثر بتلك الحالة بسبب معامل الارتباط بينهما .
لم يجد أحمد غرابة في ذلك ، وقبيل أن تنتهي المحاضرة ، نهض من مقعده متوترا ومحتقن الأوداج بعد أن أحس بحزن عميق انتابه طالبا من الأستاذ أن يسمح له بالخروج ، إلا إن الأستاذ منعه من ذلك ليرد عليه أحمد قائلا : ما أنا يا سيدي إلا شعاع مشطور وقد اعتل معامل الارتباط في قلبي فلعلَّ أمر هام حدث لأخي ، أسكته الأستاذ بصمته المطبق ومن ثم عودته لشرح ما تبقى من المحاضرة ، أستاذ يشعر بمعامل الارتباط بين ظواهر الكون ويجد لها تفسيرا فيزياويا ، لكنه لا يشعر بمعامل الارتباط بين الإنسان وأخيه الإنسان ومما لاشك فيه أن معاملا للارتباط بين عموم البشر ، وما نحن جميعا إلا أشعة انشطرت من ذلك الإنسان الذي خلقه الله ، فما أشد وقع آلامنا عليك يا من يكمن فيك سرُّ الارتباط ، ما أحزنك وكم هو وجعك سيدي آدم وأنت تشعر بكل أوجاع البشر وما أنا إلا سيزيف مازال يحمل صخرته لكنه موقنا سيهوي أخيرا بقاع بئرٍ لا قاع له ، فهل ما زلت ماسكا بمعامل الارتباط هذا رغم كل الذي حدث ؟
ما أن انتهت المحاضرة حتى شق ازدحام الطلبة أحدهم ، الذي كان بالانتظار ليخبر أحمد بما تعرض له محمود من حادث مؤسف أودى بحياته .