اليشماغ في أساطير قرية آل بو دمعة… نعيم عبد مهلهل

منبر العراق الحر :
بدون أن أعود الى أية مرجعية لتأريخ ارتداء اليشماغ غطاء للرأس ووقارا لمظهر الرجل ،وحامي صلعة راعي قطيع الجواميس من صباحات الشتاء . ويفترض المعلم حامد هويدر مسكون من أهل مدينة بهرز وأتى معلما الى مدرستنا القابعة في عمق الأهوار في قرية آل بو دمعة ، يفترض ان اليشماغ يمكن ان يكون راية لسارية علم المدرسة يوم تمزق الريح العلم بانتظار استلام واحد جديد من مديرية التربية .
كمعلم رسم ، لا يوجد تخصصه في جدول الدروس الأسبوعي حيث أعطوني الحياتية بدلا منه ، كنت أراقب اليشماغ بذلك التنقيط الساحر ، وأقارنه بما كنت أراه في عمائم وقبعات أمراء سومر ، عندما عرفت ان كلمة اخ ماغ تعني بالسومرية غطاء الرأس ، وظل الغطاء ارثا للزي الذي تتميز به القامات الفارعة للرعاة واهل القرى ، وكما يقول أحدهم :بدونه تضيع الهيبة والملامح ويفقد المعدان قدرتهم على التخاطب مع الآخرين ، حتى تشعر ان الخجل يسكنهم حين يحدثونك وهم لا يرتدونه ، لهذا سمحنا للتلاميذ ان يرتدوه . وحين اعترض احد المشرفين على ذلك يوم زار مدرستنا ،قلت له :مسموح للتلميذ في المدينة ان يرتدي قبعة ، وهؤلاء اليشماغ هو قبعتهم .
قال المشرف :ولكن التلاميذ ينزعون قبعاتهم حين يدخلون الصف . فالصف له حرمة كالجامع لانه مكانا لتربية الروح والبدن .
قلت : اذن لماذا لا تأمرون التلاميذ بنزع أحذيتهم كما نفعلها نحن مع الجامع .
صمت .ولم يجب .ثم قال للتلاميذ : هل تقبلون بأن تنزعوا الياشمغات عن رؤوسكم .
قال مسعد وهو تلميذ صاحب فطنة وقال : ولكن يا أستاذ أن نزعناها لا تركد الكلمات جيدا برؤوسنا .
ضحك وقال :اذن أبقوها على رؤوسكم فنحن نريد للكلمات ان تركد .
كوديا الملك السومري ارتدى اليشماغ ، وكذلك ارتداه الكهنة ، وتوارثه المعدان ،واعجب بنقشته الإسكندر المقدوني وتمنى ان يتوشح به قادة جيشه ، وشاهات الفرس وبكباشية الترك ، فيما الضباط الإنكليز كانوا يأخذونه هدايا الى حبيباتهم في لندن .
كل اهل قرية بو دمعة يرتدونه ، واجمل ما شعرته ، ان أبناء القرية من التلاميذ الذين كبروا واصبحوا جنودا ، كانوا يأخذون يشماغتهم معهم في حقائبهم ،وحين سألت مسعد الذي اصبح عريفا في فوج مغاوير عن سبب اخذ لليشماغ معه ، قال : في الليل ينزع الجنود الخوذ ، ولأنني لم أتعود ليكون رأسي حاسرا ،البس اليشماغ لأعيش إحساس أن قرية آل بو دمعة معي ،ومعها انقاس أبي ونظرات أمي وهي تودعني بعيون يملئها الدم والدمع ، وحتى سير الجواميس من الزريبة الى الماء اشعر إنها تمشي بين النقاط السوداء التي تطرز اليشماغ .
في صباح مشمس ناعم النسائم ، جاء مسعد الى القرية بدون حقيبته وبدون بساطله وبدلته ، إنما هو فوق نعش . وما انتبته اليه بين موسيقى عويل نساء ونحيب الرجال من اهل القرية ان المأمور حمل شيئا بكيس وسأل عن اسمي ،وحين تقدمت اليه ، قال :هذا ما تركه مسعد لك .
وحين فتحته ، وجدته ذات اليشماغ الذي ارتداه وهو تلميذ ،وبقي على رأسه الى لحظة استشهاده في حرب أرادها أهل الاهوار حربَ يشماغات وليس حربا للخوذ.

اترك رد