هنري كيسنجر “غراب” أم “أسطورة”؟

منبر العراق الحر :…..د.ناصر زيدان…النهار العربي

يحذِّر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، من حرب قد تقع في الشرق بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان وكوريا الجنوبية من جهة، وبين الصين وكوريا الشمالية من جهة ثانية. وهو قال لمناسبة بلوغه 100 عام من العمر، “إنّ اليابان قد تحصل على سلاح نووي وتطوّر أسلحة دمار شامل بسرعة لا يتوقعها أحد”. وفي حديثه لصحيفة “وول ستريت جورنال”، اعتبر أنّ التباين حول بحر الصين الجنوبي قد يكون سبباً لنشوب الحرب، ذلك أنّ النظرة إلى هذه البقعة الهامّة من العالم مختلفة جذرياً بين الفريقين، وأنّ هناك ثقافتين مختلفتين كلياً، ويتغذّى التباعد أكثر فأكثر بسبب تعارض المصالح. لكنه اعتبر أنّ واشنطن وبكين تُدركان مدى خطورة مثل هذه الحرب، وستعملان على تجنُّب وقوعها.

يُوصف هنري كيسنجر بأنّه عميد الدبلوماسية الدولية، ومستشار لزعماء العالم على مدى أكثر من نصف قرن، وداهية التلاعب على خصومات المتنافسين، وهو الوحيد بين سياسيي التاريخ المعاصر الذي جمع بين العمل الأكاديمي والعمل السياسي، حتى في أوج انشغالاته التفاوضية، وقد وصفه تيري رود لارسن (مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى لبنان ومهندس اتفاقيات أوسلو) أنّه ظاهرة فريدة في عالم الدبلوماسية المعاصرة وأكاديمي رائع، وأسطورة ترك بصمات لا تُمحى في مكتبة العلوم السياسية. في المقابل، يصفه كثيرون، أنّه “غراب” يبعث على الشؤم من شدّة قابليته للمساومة او للتآمر.

أكمل هنري كيسنجر عامه المئة، وواكب أهم الأحداث في العالم حتى الأيام الأخيرة، وأعطى رأيه في قضايا دولية آنية ساخنة، ومنها أحداث أوكرانيا، حيث اعتبر أنّ مساعي إدخالها إلى عضوية حلف شمال الأطلسي (ناتو) كانت خطأً جسيماً، لكن التخلّي عن دعمها اليوم بعد اندلاع الحرب مع روسيا خطأً أكثر جسامة. وكيسنجر الذي كان صاحب نظرية تحقيق الانفراج مع روسيا والانفتاح على الصين في الربع الأخير من القرن الماضي، يعتبر أنّ سياسة دونالد ترامب (الرئيس الأميركي السابق) خلطت الأوراق الدولية على شاكلة واسعة من الفوضى، وقوَّضت عوامل الاستقرار بين القوى الكبرى، ولم تخدم المصالح الأميركية.

كيسنجر الذي ولِدَ في 27 أيار (مايو) 1923 من عائلة ألمانية يهودية؛ هرب من الجنوح النازي لهتلر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1938، ودرس في جامعة هارفرد وتخرّج منها عندما نال شهادة الدكتوراه في العام 1954، وأصبح مستشاراً للأمن القومي الأميركي عام 1969، ومن ثمَّ وزيراً للخارجية عام 1974. ولم تنقطع مسيرته الدبلوماسية والأكاديمية منذ ذلك الوقت، بالرغم من عدم تبوئِه أي منصب رسمي في الإدارات المتعاقبة، لكنه بَقيَ مرجعاً له تأثيره الكبير على السياسة الخارجية الأميركية، حتى أنّ بعض الرؤساء تأثروا بنهجه السياسي، ومنهم بيل كلينتون وباراك أوباما، الذي وُصف بأنّه “كيسنجري الهوى”.

اشتهر هنري كيسنجر بأنّه لا يستكين ولا يملّ ولا يتعب قبل تحقيق أهدافه. وقال عنه بعض متابعيه، إنّه دبلوماسي واقعي، فيما وصفه البعض الآخر بالبراغماتي المرِن، وقال عنه أخصامه، إنّه ميكيافيلي، ويبحث عن تحقيق الأهداف من دون أن يتطلع إلى حجم الخسائر التي تسبّبها سياسته للعدو وللصديق في آن.

انطلقت شهرة كيسنجر في العلاقات الدولية من الشرق الأوسط على وجه التحديد، وهذا لا يعني التقليل من أهمية دوره في أحداث التشيلي وفيتنام وقبرص عندما كان وزيراً للخارجية. وهو استطاع أن يُنهي الحرب بين العرب و”إسرائيل” عام 1973، وفرض وقفاً لإطلاق نار مبني على تفاوض أسس لسلام بين إسرائيل ومصر في ما بعد على الجهة الجنوبية، ولهدنة طويلة الأمد على الجهة الشمالية، خصوصاً بين سوريا وإسرائيل.

واتفاقية السلام التي تحقّقت بين مصر بقيادة أنور السادات وإسرائيل بقيادة مناحيم بيغن عام 1978؛ كانت الإنجاز الذي بقيَ كيسنجر يفاخر فيه، لأنّها وضعت حداً للخطر الوجودي الذي كان يُهدّد إسرائيل، على ما ذكر وكيل وزارة الخارجية الأميركية مارثن إندك في كتابه “كيسنجر سيّد اللعبة في الشرق الأوسط”، وذلك برغم الإخفاقات التي حصلت مع كيسنجر في تلك الفترة، وأهمها: عدم ادراك مدى “أهمية” الإعتراف الذي حصل في قمّة الرباط العربية عام 1974 بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وهو ما أغضب كيسنجر لسنوات طويلة. كما أنّه أهمل إلى حدود بعيدة الإنعكاسات السلبية التي حصلت من جراء الحرب الداخلية في لبنان عام 1975 (وبعضهم يقول إنّ كيسنجر دفع باتجاه حصول هذه الحرب)، وهي سمحت للاتحاد السوفياتي بأن يدخل لاعباً أساسياً في سياسة المنطقة، من جراء احتضان موسكو لمنظمة التحرير الفلسطينية ولليسار اللبناني، والإستفادة من العطف العربي والإسلامي معهما.

بعد مئة عام، يذكِّر كيسنجر بأهمية تنظيم الخلاف مع الصين برغم التباين، أو التنافس القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية. والوضع اليوم أقل صعوبة مما كان عليه الحال في سبعينات القرن الماضي، وهو نجح في تأمين انعقاد قمة بين الرئيس ريتشارد نيكسون والزعيم الصيني ماو تسي تونغ عام 1973، ما أغضب موسكو، وزرع بعض بذور الشك بين العملاقين الشيوعيين الآسيويين في حينها، وأغرى بكين في إمكان انتهاج سياسة مختلفة عن موسكو في الحرب الباردة التي كانت قائمة.

نجح كيسنجر في الحصول على جائزة نوبل للسلام عام 1973، بسبب دوره في إيقاف الحرب في الشرق الأوسط، ونجاحه في التحضير للاجتماع بين نيكسون وماو تسي تونغ؛ وهو نجح بعد عمرٍ مديد في الحصول على لقب الشخص الأكثر خبرة في العالم بالعلاقات الدولية من دون منازع.

اترك رد