بيت من أعواد الثقاب.. قصة قصيرة… بقلم: مسلم الطعان

منبر العراق الحر :
-نحن صناديق مقفلة.
كنت دائماً أكرر تلك الجملة عندما يدور الحديث عن الأسرار والذكريات بين الأصدقاء والمحبين، والتي عادةً ما تكون حبيسة تلك الصناديق، و عندما يُرفَع عنها الغطاء سرعان ما تتحول تلك الأسرار الى أعواد ثقاب تشعل ذاتها والماسكين بها على حدّ سواء…!
عشنا طفولتنا أنا وصاحبي، كصناديق مقفلة، في قرية في المدينة.. كل واحد منا هو الصندوق المقفل الذي يضم أسرار وذكريات الآخر.
-قرية في مدينة؟!
ربما يتساءل أحدكم في قرارة نفسه..كيف يكون الأمر هكذا؟! كيف يلتقي الضدّان في مكان واحد؟! القرية والمدينة؟
ثمة علاقة تأريخية ما بين القرية والمدينة..
– كل المدن تولد من رحم القرى.
قال أحد الأصدقاء-الحكماء.
القرية التي عشنا فيها أنا وصاحبي حتى قبل دخولنا للمدرسة الإبتدائية كانت بيوتها تبنى من أعواد القصب..هي مشروع إحتراق دائم: إحتراق في الأحلام والطموحات والحب القرويّ والعاطفة المتأجّجة المتصلة بحبال الجنون..كانت طفولتنا جميلة رغم ثياب البؤس التي ارتديناها لسنوات طويلة..كنا نلعب في الشارع بكرتنا البلاستيكية التي نسمّيها ( طوبة عصب)..كنا نجيد اللعب في الشارع الترابي نهاراً ونمضي قسطاً من الوقت تحت ضوء التيل ( عمود الكهرباء) ليلاً..كنت أحكي لأصحابي القصص التي أقرأها في مكتبة المدرسة وأضيف لها من بنات أفكاري إذا ما نسيت بعض التفاصيل، كان صاحبي لصيقاً بي كظلّي.، وأنا أيضاً كنت ظلا لصيقاً به..كنا نظلّل بعضنا البعض بأفياء المحبّة عندما تعصف بنا حرارة العوز والفقر والفاقة..أنهينا السنة الأولى في المرحلة الابتدائية بتفوق، وفي بداية السنة الثانية مات والد صاحبي وماتت معه أحلامنا الطفولية بأن نواصل الدراسة معاً..إفترق الظلان المتلاصقان..ظل سار نحو العاصمة بغداد وظل بقي ملتصقا بتراب القرية وبيوتها المنسوجة من أعواد القصب. بعد مرور عام عاد صاحبي للقرية وللمدرسة ذاتها، ولكني تقدمت عليه بسنة دراسية، بيدَ أننا لم نفترق ثانية لأربعين عاماً متواصلة إلا في سنوات الحرب، تلك الحرب التي إشتعلت بعود ثقاب ولم تنطفئ إلا بعدما أطفأت معها أحلام الشباب و شموع أعمارهم الفتيّة..كان صاحبي جندياً يقضي خدمته الإجبارية بعدما أنهى دراسته المهنية في إعدادية الصناعة، وكنت مدرّساً منتدباً..انتهت مدة انتدابنا والحرب مازالت تطلب منا أن نشعل أعواد الثقاب بعدما أحالت أعمارنا إلى تبغ محترق تتلّذذ بتدخينه عندما يحتدم أوار المعارك الطاحنة. ذات مرة تأخر صاحبي عن النزول بإجازته الدورية لأكثر من شهرين، تأخر ظله عن القدوم لظلي، لأن ظلال الحرب كانت تنشب مخالبها في الأجساد التي تنفصل عنها رؤوسها بفعل شظية مارقة.. الأرجل لم تعد تسير في طرقاتها المعتادة، و الأيدي المبتورة لم تتمكن من أداء تلويحة الوداع، الأرجل والأيدي تطير هنا وهناك ولا تعود كما ظل صاحبي لأصحابها..
هكذا هي الحرب إذن مروق على حرمة الحب ومحرقة تكون بها الأجساد العاشقة أعواد ثقاب تدوّن مرارات الحرب وويلاتها.
بعد مضي أكثر من شهرين على غياب صاحبي كان ظلّي ينتحب معي ويشاركني محنة الم فراق ظل صاحبي، وبعد إنتهاء المعارك في قاطع العمارة نجا صاحبي بأعجوبة من الموت ومن محنة الوقوع أسيراً بيد العدو، وعندما عاد كان قد جلب لي بيتاً من طابقين معمولاً بحرفيةٍ ومهارة من أعواد الثقاب..لقد جمع صاحبي كل تلك الأعواد لكي يبني لنا بيتاً يجمع ظلينا معاً..كل ظل بطابق كما كنا نحلم منذ طفولتنا القروية..وضعت الحرب أوزارها وأعقبتها حرب الجوع والحصار.. و عندما غادرت البلاد التي أدمنت خمرة الحروب، وإفترق ظلّي عن ظلّ صاحبي، مددت حبال العون لصاحبي وإلتقينا ثانيةً والتقى ظلانا في الغربة، كنا نأكل من ماعون واحد، وكنا لم نزل نرفع شعار ( الجيب واحد)، كما كنا نفعل في طفولتنا وأيام شبابنا، تفرّقت بعدها بنا السبل، وعندما عاد صاحبي من ديار الغربة، إبتنى بيتاً بطابقين..كنت أظن أن الحلم قد تحقق، وأن البيت الذي عمله من أعواد ثقاب الحرب، قد وجد معادله الجماليّ ببيت حقيقيّ يضم صناديقنا المقفلة في وقت السلم، إنفصل ظلانا وإبتعدنا عن بعضنا في وقت السلم ونحن الذين لم نفترق منذ نعومة أظافرنا القروية في أوقات الحروب التي خضنا غمارها بأشكالها المختلفة. سكن صاحبي في البيت ذي الطابقين، و لم يرفع معي كما كنا نفعل لطيلة أربعين عاماً شعار : (الجيب واحد)، ولم يوصلني إلى كراج السيارات بسيارته الجديدة عندما كنت أزوره في البيت ذي الطابقين، إذ قال لي ذات صباح عندما كنت أهم بالخروج إلى عملي في مدينة مجاورة:
-بإمكانك أن تستأجر سيارة تكسي تقلّك للكراج الرئيسي.
قلت له وثمة غصة كانت تفجّر بركانها في داخلي:
– نعم يا صاحبي أنا أعرف الطريق جيداً.
لم يدر في خلدي أن العيش في بيت بطابقين يجعل من صاحبي فيلسوفاً طبقياً، أي ينظر إليّ من طبقةٍ عالية، وينسى أو يحاول أن يتناسى بأن صناديقنا المقفلة لم تزل تحتفظ بأسرار وذكريات طبقتنا القرويّة الطيّبة.. نزلت مطارق قول صاحبي الطبقيّ كالصاعقة على رأسي الذي كانت تشتعل فيه في تلك اللحظة المرّة أعواد ثقاب الذكريات التي فرّت من صناديقنا المقفلة.شعرت بظلّي يبكي بحرقة وكأنه أدرك إن تلك اللحظة هي الأخيرة مع ظلّ صاحبي، وها آنذا أشاطر ظلّي مرارة تلك اللحظة، لحظة الإنفصال عن ظلّه التوأم، وأسمح لنفسي بالبكاء على بيتنا الحلميّ الذي نسجه صاحبي ذات حرب من أعواد الثقاب.

اترك رد