منبر العراق الحر :
إنني أبدأ متأخراً , ولكن ما إن أشرع في الانطلاق حتى يتبين أنني لستُ من النوع الذي يتوقف في منتصف الطريق.
يوكيو ميشيما
تقع قريتنا عند الحافة الباردة لشعاع الشمس حين يمنح القصب أضويته الخضراء الى اللون الذهبي للشمس الغاربة فتكتب على صفحة السماء السيرة الذاتية لنهار من نهارات الأهوار بدءاً من نداءات الديكة للجواميس كي تنهض من سرير القش وتذهب لتعود في الماء البارد الى العوم في سرير الماء طول النهار والى عودتها الى حضائرها وضرعها ممتلئ بالحليب.
نعيش في هذا العالم المكتنز بالبراءة والمقدسات وفطرة الحياة ، وتجاورنا في القرية المبنية من القصب والتي تعوم في المياه مثل زورق تهزُّه نسائم الصباح بحركة تشبه الزلزال الطفيف ، لكن لا أحد يهتم ويخاف من طيران القرية في الفضاء بسبب هذه النسائم لأن القرى معبئة بالرجال والدواب وهي ليست بساط الريح حتى تطير ، ومن يطير هو حلمي بعد أن قرأت رواية ليوكيو ميشيما ( الغابة في ريعان ازدهارها ( أن اعيش نزهة الغرابة في اطياف اليابان وأقرأ التاريخ الشرقي والغريب لهذه الإمبراطورية التي تقدس الشمس وسمكة الشبوط وإمبراطورها هيرو هيتو.
مأساة ميشيما في انتحاره على طريقة موت الساموراي لم يضع ظلاله في دهشة قراءاتي لعالمه المليء برومانسية المديح لجمال بلاده بالرغم من حزنه على هزيمتها في الحرب الثانية ، وأظن أن جلبَ هاجس ميشيما الى مكان لا يحتفي بمجد العسكرة والهاجس العسكري وعبادة الإمبراطور يحدث صدمة في رغبتي أن احمل غيوم الحقائب واسافر معها الى أطياف البلد الغرائبي ( اليابان ) وبالرغم من هذا تحس أنك تشعر بمتعة غريبة وانت تقرأ ميشيما على ضفاف الأهوار وتتحول في عينيك غابات القصب التي امامك الى غابات اشجار ورد الكرز.
ذات يوم أتت بعثة اثرية يابانية لتستطلع تلّاً اثريا قرب القرية التي تقع فيها مدرستي ، واحتاجوا دليلاً يقودهم الى المكان ويعود بهم في المساء بعد أن قرروا المبيت في القرية بضيافة شغاتي الذي تبرع ليكون مرافقا لهم بعد أن رفض عرضهم المادي كأجر ، وقال لهم :افعل هذا مجانا لأجل عيون ميشيما الذي انتظر قراءة روايته بعد أن ينتهي الأستاذ من قراءتها .
إستغرب البرفيسور كوجي يامارا رئيس البعثة من فطنة شغاتي وثقافته وقال : لم اكن اتصور أن احدا في بلاد سومر وهذا المكان النائي يقرأ ميشيما . سيد شغاتي أظن أن رفقتنا معكَ ستكون جميلة .
ذهبت البعثة وشغاتي صوب التل الأثري ، وعندما حلَّ المساء رجع الجميع ، وقضينا معهم سهرة السمك المشوي واللبن الرائب وأقداح الشاي وقد تمنيت على الدكتور كوجي مارا أن يعمل لي دعوة لزيارة اليابان التي هي من بعض أحلام السندباد الذي يسكنني.
ضحك وقال :شرط أن يكون السيد شغاتي معك .
قال شغاتي : دكتور لقد ولدت هنا ، فقط لأموت هنا ، أنا سمكة وطنها الماء وليس اليابان .
ابتسم البرفيسور الذي كان يتحدث العربية وقال :كلامكَ الحكيم هذا سأجعله مقدمة لمحاضرتي عن الرحلة في معهد الاستشراق الاسيوي في طوكيو عند عودتي.
ضحك شغاتي وقال :ولكن يا بروفيسور ألفظ اسمي جيدا وصحيحا :أنا شغاتي وليس شكاتي.
