عباءة أمي…..كريم خلف الغالبي

منبر العراق الحر :
تركتُ الدار غافية على نهرٍ حزين يوم خلَت من جميع أهلها ، الكل مضى إلى غايته كما شاء لنا لا كما نشاء نحن ، ولو كانت الحياة بمشيئتنا لما اخترنا الحياة بها لكي نموت ، وأنا التفت لتلك الدار رأيتها تبحث في طيّات قصبها عن عباءة أمي التي ما عُلّقت يوما ما ألا على رأسها ، أمي التي رفضت أن تتجرد منها حتى وهي مسجّاة على مغتسل الموتى ، لم يستطع أحد انتزاع طرفي عباءتها من أسنانها المبيضتين ، حتى الموت كان عاجزا عن خطف ذلك البريق وهي تبتسم له أملا في حياة أخرى ، ففي كل بيت من تلك القرية دكة موتى ، الموت لا يزور نساء قريتي إلا في آخر الليل ، لم أدركُ في حينها لماذا يأتي الموت لنسائنا في تلك اللحظات ، كانت تخيفنا أشباح ذلك الليل عندما يشق ستاره المظلم عويل وصراخ الفاقدين ، لم ادرِ إن عفّة تلك النساء آخت ذلك الموت وأجبرته على أن يأتيهن ليلا حينما يحين الأوان بساعته التي تدق أجراسها لتوقظ الغافين فيه كي يأخذوا دورهم بعدما فاتهم افتضاح أمرهن في النزع الأخير من الموت ، تذكرت أحدهن عندما اجتمعن في دار أحد كبار القرية ليشاهدنَ ولأول مرة ما يبثه التلفزيون الوحيد الذي دخل قريتنا في دار ذلك الرجل وعندما ظهر المذيع من على الشاشة سترت وجهها بطرف عباءتها لئلا يراها ذلك المذيع .
ياله من رجل جواد كريم ، حرم عائلته كي يكرمنا نحن الصغار بمتابعة مسلسل ( أعماق الرغبة ) ومشاهدة فيلم (سعيد أفندي) الذي أثارني المؤلف باختيار هذا الاسم ، لعله أراد أن يشبع شغف (صديقه الملاية) وهي تغني (أعيوني الأفندي ) ولا أعرف هل القدر أبقى لها حبيبها صبري عندما كان للبصرة أمينا واحدا لصندوقِها هو لا غيره.؟
يوما ما حُرِمنا من مشاهدة ذلك التلفزيون عندما أصابه عطب اثر مرور أنامل عروسة ابنه التي كانت تبحث عن الذين يظهرون على شاشته داخل حجرة التلفزيون الذي ينوء بحمله أربعة أشخاص على الأقل .
وأنا أودع تلك الدار ، كنت أمشي في ذلك الطريق الذي سيقودني حتما لمدينة تجهل طفولتي ولم تعلم عنوان وجهتي التي رسمتها معالم قريتي بدموع الأسى ووجع الفراق ولا اعرف بالضبط أية دار ستأويني في أطراف تلك المدينة ، خطواتي بلا عيون فلقد تسمرت عيناي في موضع من قفاي ، تنظر إلى تلك الدار التي تعوي فيها الريح لتسمعني هديل يمام جريح ، اسمع صدى صوت أمي يردده ظلها الممدود بلا حدود ، ظلها الذي لا يعرف خريطة هيئتها وليس له سوى رسم واحد هو تلك العباءة السوداء كي يزداد حلكة وظلاما ، ظل اشدُّ من حَلِكِ الغراب ، ترسمه تلك العباءة علامة استفهام أدارت ظهرها عن الجواب ، وهل من جواب حينما يستتر الظلام في الحياء ؟ .
اعترضنني سعفتان مربوطتان مع بعضهما كي أفكَّ ارتباطيهما الوثيق وكأنهما يعلمان بأنني سوف لن أعود للتمرجح بهما من جديد ، توقفت قليلا وجلست على طرفيهما وبدأت أحرك قدمي في الهواء وأنوء بظهري إلى الأمام والخلف بلا جدوى ولم أحصل من عناء حركتي هذه سوى إزاحة قصيرة ليست أبعد من حركة بندول ساعةٍ جداريه عسى أن تصل بي تلك المرجوحة إلى حافة نهري الحزين لأرى الأسماك الصغيرة التي كنت اصطادها بقطعةٍ من كِلَلٍ كلّت من أبر البعوض الذي اخترقتها مع برغشٍ لا يهدأ له طنين ولا يصده وجع ولا أنين ، ما زلت أرى بعيني حتى ساعتي هذه تلك الأسماك الصغيرة وهي تفرُّ سوية داخل الماء كطيورٍ صغيرة فرّت في كبدِ سماءَ غروبٍ اثر رمية من صياد اخطأ مرماه ، ترجلت ألمي تاركا تلك المرجوحة دون أن أفكَّ ما تعاقدت عليه السعفتان ، لم يبق في الدار سوى كلبنا الصغير الذي كان يعوي حينما تغرب الشمس ، لقد رأيت أمي في حينها ترفع يديها إلى السماء ترجوه أن لا يفجعها بما يأتي به نذيرُ الشؤم الذي سمعت صداه يتردد في عواء كلبنا الصغير الذي يحاول إيقافه برفع رأسه إلى الأعلى وببسط ذراعيه على عتبة الدار ، دمعتان كبيرتان قفزتا كحبتي لؤلؤ من طرفي عينيها عندما مرَّت ( الططوة ) في أعلى السماء وفوق منتصف الدار فلا (السكين ولا الملح) الذي توعدت بهما أمي يوقفان القدر الذي أفشى سرّه ذلك الطائر المكروه ولم يردّ سطوته عواء كلبنا الذي كان آخر الباقين من أهل تلك الدار .
تمت

اترك رد